ليست كل الزيارات والأسفار السياحية إلى المدن تجلب للنفس السعادة، وذلك الفرح المبرد، وإن كانت لا تخلو من متعة المعرفة، لكنها تخيم عليك بكوابيسها، وربما صرخات من كانوا هنا، وقضوا نحبهم تحت التعذيب أو الوحدة القاتلة أو بتلك الآلات التي تفتك بدم الإنسان المقدس، بعض المدن لكي لا تنسى، ولتبقى ذاكرة تلك المحن ماثلة أمام الأجيال الجديدة، تجدها تحتفي كل عام بأحزانها، وتبكي قتلاها، ولا تخلو من دعاء على من قام بها، فقد رأيت في مدينة «سراييفو» تلك الصلوات الجماعية على امتداد نهر «دارينا»، وزيارة شواهد من قتلوا في المذابح المختلفة التي مرت على البوسنة والهرسك عبر التاريخ.
في ذاك اليوم تجد العائلات تحمل نذورها وتقرأ الفاتحة على أرواح قتلاها، حتى المكان الذي اغتال فيه الشاب البوسني «برنسيب» ولي عهد النمسا، وتسبب في قيام الحرب العالمية الأولى، تحوّل إلى متحف للحرب العالمية الأولى.
وإذا ما ذهبت إلى بولندا وزرت معسكرات التعذيب والإبادة الجماعية التي أسسها الرايخ والنازية إبان الحرب العالمية الثانية، مثل معسكر «أوشفيتز» الرهيب الذي أبيد فيه أكثر من أربعة ملايين إنسان من أعراق مختلفة، بينهم مليونا يهودي، كما تقول بعض المراجع والكتب، تجدهم يعدونه مركزاً أساسياً لإحياء ذكرى المحرقة في كل سنة، وانطلاق مسيرتها السنوية نحو معسكرات الإبادة أو ما يسمى بالمحرقة أو «الهولوكوست» لإحياء ذكرى من قتلوا في معسكرات الإبادة، مثل «ميدانيك» الذي تمت فيه إبادة ما يقارب مليوناً ونصف مليون شخص، لا ينتمون للعرق الآري، ومعسكر «بلجيتس»، وأُبيد فيه قرابة نصف مليون يهودي، ومعسكر «ترابلينكا» وأُبيد فيه أكثر من ثلاثة أرباع مليون يهودي، ومعسكر «سوفيفور» وأُبيد فيه مئات الآلاف من اليهود والروس والبولنديين.
إن زيارة تلك المعسكرات، ستوحي لك كم هو الإنسان رخيص، وكم هو رقم في الحاشية، وكم هو جبّار حين يريد أن يفتك بالآخر، وكم هو ضعيف حين يُذل، وكم من الحماقات ارتكبها الإنسان بعيداً عن إرادة الرب، وإن كان في بعضها رافعاً راية من يعتقدون أنهم كانوا يمثلونه، وظله في الأرض، مثل الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش وحروب الطوائف والإقصاء العرقي والحروب الأهلية والإبادات الجماعية.
هذه المعسكرات التاريخية أصبحت اليوم مزاراً سياحياً، ومقصداً للزائرين بحثاً عن الحقائق التي وردت في كتب التاريخ، وتعددت مصادرها، واختلفت مراجعها، فليس مثل الأمكنة شاهداً وأميناً على الأحداث، حيث تمثل السجون التاريخية تلك الحقيقة، ولعل أشهرها سجن «الباستيل» الذي كان في الأساس قلعة، وكان اسمه الأول «الباستيد، La Bastide»، وليس الباستيل وتعني الحصن باللغة الفرنسية، ثم تحولت على يد مهندس معماري إلى سجن رهيب، كان هو نفسه أول نزلائه، وقد سجن فيه «فولتير، ودي ساد»، وكان تحطيمه شرارة الثورة الفرنسية عام 1789، ويقال إنهم لم يجدوا فيه غير سجين واحد، وقيل سبعة فقط.
وهناك سجن «إيف» بالقرب من مرسيليا، وكان في الأساس قصراً، وهناك ثلاث جزر في المحيط الأطلسي نائية تسمى «جزر الشيطان» تعد من السجون القديمة، وهناك سجن «مانديلا» وسجن «أبو غريب» في التاريخ الحديث، وقد ذاعت شهرة بعض السجون بعد تناولها في الأعمال الأدبية والسينما، ولعل أشهر فيلمين عن السجون فيلم «الهروب من الكاتراز» وفيلم «الخلاص من شاوشانك» وغداً نكمل.