ليس هناك من مدينة تضم بين حناياها قبوراً لرجال من التاريخ العربي والإسلامي مثل دمشق، حتى عرفت عن الشعوب الإسلامية بـ «شام شريف» على غرار «مزار شريف»، ومن بين تلك القبور، قبر سيدنا بلال بن رباح الحبشي، رضي الله عنه، في مقبرة «باب صغير» في «الشاغور»، مجاوراً قبر «عبدالله بن جعفر الطيار»، و«عبد الله بن أم مكتوم»، مؤذن الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام)، وكتب عليه أبيات شعر باللغة الأمهرية، وهي لغة أهل الحبشة، ورسمت بحرف عربي، فهل قالها بلال أم هي وصيته قبل الممات:
«أره بره كنكره    كراى كري مندّره»
وعرّبها شاعر الرسول (ص) حسان بن ثابت: 
إذا المكارم في آفاقنا ذكرت  
فإنما بك فينا يضرب المثل                                                                
تلك الزيارة لمقامه العالي فتحت لي أبواب الأسئلة والجدل ونبش حقائق من التاريخ مخفيّة، فهل كان بلال يتحدث الحبشية لغة بلدته في الحبشة «السراة» والتي جلب منها مع أبيه كأسيرين وكان غلاماً يافعاً، أسمر، طويل القامة، نحيفاً، أم ولد في الحجاز، وهي لغة أمه «حمامة» التي كانت على قدر من العلم والمعرفة، وكانت ذات أصول رفيعة أو من سادة السودان كما يقال، وكذلك لغة أبيه رباح؟ أم كان يتقن العربية إلى جانب لغته الأم، أم ينطقها أعجمية مكسرة؟! ظلت هذه الأسئلة تراودني وأنا أقرأ الفاتحة على قبره، متذكراً خصائله الحميدة وجهاده وصفاء سيرته وإخلاصه للدعوة، حيث لم يلوث يده بدم إخوان له حين تقاتل الصحابة، ولم تمتد يده إلى مال حيث كثرت الغنائم وفتحت الدنيا.
ثم تذكرت أهل مكة، وكعادة أهلها حتى اليوم، خاصة التجار، أنهم يتقنون لغات كثيرة، منها الأفريقية ولغات آسيا ولغات الجمهوريات الإسلامية، فكيف بلغة بلد كبير، وذي شأن وقوة في ذاك الزمان، وبلد قريب، ولهم معه صلات تجارية، وبيع وشراء، مثل الحبشة، أن لا يتقنوا لغته أو تكون العربية حاضرة في الحبشة، وأعرف أن سفراء قريش إلى النجاشي كانوا يتحدثون الحبشية مثل «عمرو بن العاص»، وهجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة ضمت صحابة أتقنوا الحبشية بعد أن مكثوا فيها عاماً ويزيد مثل «جعفر بن أبي طالب» وغيره، ثم قادني إلى سؤال أكبر، هو خطأ الاعتقاد أن العصر الجاهلي، خاصة حين نتحدث عن مدن مثل مكة ويثرب اللتين تعدان من حواضر العرب المستقرة، ومدنه التجارية الزاهرة، لا أرض فلاة تحتكم لأعراف الصحراء، كما يتوهم الكثير، وتوسما بطابع الجهل، وهما في أوج ازدهارهما الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
لذا لا بد من مراجعة وتمحيص مصطلح العصر الجاهلي وتجديد مفهومه أو تحديد مفهومه، فالجاهلية في القرآن مفندة في أمور أربعة: التصور للألوهية؛ «وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية»، في السلوك الاجتماعي؛ «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى»، في الولاء؛ «إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية»، وفي الحكم والتشريع؛ «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً»، إذاً لا جاهلية ضد العلم، بل جاهلية الحلم، والفرق بينهما جد كبير، خاصة وأن هذا العصر من تاريخ العرب يمتد قرابة قرن ونصف قرن، وصل فيه الشعر أعلى مراتبه، والنثر أو السجع أو الخطب مكانة رفيعة، فللشعر أسواقه واجتماعاته وحكامه ونقاده، كانت تضرب لهم الخيام مثل «الخنساء» و«النابغة الذبياني»، وكانت تعلق السموط أو المعلقات أو الطوال على أستار الكعبة، وكان هناك من الشعراء الذين يظلون ينقحون قصائدهم حولاً كاملاً، حتى سميت بالحوليات، مثل حوليات زهير بن أبي سلمة، ومنهم من يخطب خطبة عصماء لا راء فيها، لكي لا يلثغ، وغداً نكمل..