جبل جيس، ذلك الطائر العملاق، عند ناصية المدى، عند شغاف الغيمة الباردة، هناك حيث السماء معطف الوجود، والأرض بساط من مخمل الأخضر اليانع، توخيت الحذر وأنا أعبر المحيط الجبلي، واستعنت بمقلتين، ورئتين، وأنا أقود قارب التألق، حيث الشارع يمتد كأنه سجادة من حرير الزمان الإماراتي، وحيث الساريات على ذراعي الطريق تمضي قدماً نحو العلا، وحيث المسهبات بريقاً، يسرجن الخطوات على الطين الحصوي، ورعاة الأغنام في الأفق البعيد يتولون تلاوة المسافة ما بين النون والقلم، وحيث العيون الحور تحملق في الشاهق، السامق، الباسق، وكل في داخله شيء يملؤه غبطة، وانشراحاً، في فضاء أرحب من السماء، أوسع من بصيص النجوم حارسة الجبل الموقر، والناس سعاة بين رموش الغاف التي جاهرت في الغناء مساء، واتسعت نشوة الخلق، وهم يحدبون بين صفحات المكان المتدفق نسمات تتسرب في وجدان الكون كأنها اللون في ضمير اللوحة التشكيلية، كأنها التغريدة في شجون الطير. هناك، عند نهاية التاريخ، وبداية الجغرافيا، شعرت بأنني أتسلق الفضاء، شعرت بأنني أمخر عباب السماء، شعرت بأن الأرض مركبة فضائية تحملني إلى أقصى حالات النشوة، ورفيف غابات النخل يلهمني شعوراً بأني أقطف من الزمن شهقة الميلاد، وأغرف من المكان لحظة البدء في حياكة قميص البهجة.
جبل جيس، الواقع عند خاصرة رأس الخيمة، يبدو في النظرة الأولى أنه ذلك النسر الجبلي يهم بالتحليق، في نهضة خرافية عريقة، تفشي سر السحر في هذا المترامي، هذا الكون الجبلي المهيب، والناس بين أحضان طبيعيته، يسرفون في التحديق، تيمناً بخيميائية ملائكية، رهيبة، تصيب الناظر إليها برجفة اللمسة الأولى، ورعشة الالتحام بكائن من زمن الخلق الأول، وبينما أنا أرتب خلايا الحلم، شعرت بأن يداً ما تمتد نحوي، شعرت بأني أمتطي صهوة الوجود، وأمضي حقباً، أمضي إلى حيث تكمن حقيقة التكوين الأول، وأسرد للذات حكاية الامتداد الرهيب لكائن جلت علاه، وارتفعت رايته حتى أقصى فضاءات أحلام طفولتي، حتى ذروة الليالي الساكنة في ذاكرة لم تزل ترتب أثاثها، وتعتني بخضم الصور، والوجوه، ونوايا الجبال الشم، عندما تصبح الجبال أطفالاً، يلعبون بمحتويات الأفئدة، ويمارسون حراسة المكان بحبل من مسد.
وبينما كنت أصعد سلماً فضائياً يأخذني إلى نافلة الخطوة الأولى، نحو العلا، شعرت بأن ميلاد الكرة الأرضية بدأ من هنا، من هذه القيامة، بحشرها، ونشرها، وسرها، وسبرها، وأخبار الحسان الكواعب، اللاتي سرن على رمل مشاعري وكأني أولد من جديد، وكأن خطواتي تسير على رمال من تفاصيل في الذاكرة، وكأن ما أراه شيئاً من تصاريف أزمنة غابرة، لا شأن لها بالحاضر، ولكن عندما أتأمل تلك الحواضر المنثورة كالسندس والإستبرق، تنتابني فكرة أقرب إلى تخلق بداية النهار، أشعر بأنني أشتق من رغيف اللحظة الآنية قطفة، وأسحق دقيقها بإرادة القوة التي قالها الفيلسوف فريدريك نيتشه، فتبتسم لي الدنيا، وكائنات من جنس البشر، تطوق دهشتي، وتسطو على فرحتي، بعيون كأنها النجوم في لحظة تألقها، وهي تخترق أحشاء الغيمة.
وقبل أن يحط الظلام رحاله عدت أدراجي، محملاً بذاكرة كأنها سنام جمل، تخفي تحتها أسراب أفكار، وقوافل ركاب مرت من هنا، من جادة تاريخ أطول من الزمان، وأوسع من المكان.
جبل جيس، رحلة في الذاكرة، سفر في ضمير المكان، قراءة في صفحات الخلود، وكتابة على سبورة الأيام.