كان في «الجاهلية»، ذلك الزمن الذي أجحف الكثير من المؤرخين في حقه، والحط من قدره بغية إعلاء الزمن الذي أتى بعده، الخطباء مثل قس بن ساعدة الإيادي، وكان هناك الحنفاء مثل: ورقة بن نوفل ابن عم خديجة بنت خويلد، وزيد بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب، والشاعر أمية بن أبي الصلت، والشاعر لبيد بن ربيعة العامري، وعبيدالله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبدالعزى، وأكثم بن صيفي، حكيم العرب، والشاعر زهير بن أبي سلمى، وأوفى العرب السموأل بن عادياء.
وكانت مكة والمدينة أرضاً غناء، وأسواقاً أدبية وفنية، يعيش فيها أقوام من مختلف الأجناس واللغات، والديانات والمعتقدات، وكان هناك التبادل التجاري، والسلعي، ومرور القوافل، وهناك أماكن مقدسة، وحج كل عام، ففي الجزيرة ثلاث وعشرون كعبة، وهي غير مكة وكعبتها بيت الله، اشتهرت منها إحدى عشرة كعبة كمزار لمختلف الاعتقادات، وهناك رحلات الشتاء والصيف، فلا يمكن إلا أن تكون هناك كتابة، وحسابات وأرقام وعقود وعهود وديون ومواثيق، ولا يكون ذلك إلا في أماكن متحضرة، إذاً لم يكن العصر الجاهلي عصر جهل ضد العلم، وإنما كان عصر جهل ضد الحلم!
في ذلك المجتمع ترعرع بلال، حيث ولد قبل ثلاثة أعوام من عام الفيل، أي سنة 43 قبل الهجرة، من أحباش شمال السودان، وقيل من سراة الحبشة، فقد كان أسيراً، ثم مملوكاً لأمية بن خلف الجُمحي الذي عذبه على إسلامه، وشارك في قتله في معركة بدر، وعبارته «أحد.. أحد» اشتهرت في الآفاق، مثلما سيشتهر بلال نفسه في كل العالم، ربما لأنه كان أول مؤذن، فقد استطال عنقه، وذاع صيته، كما في الحديث: «المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة».
لم يتخلف بلال عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا في حل ولا ترحال، ولا غزو، وحين توفي، ترك المدينة، وفضل أن يكون مرابطاً في بلاد الشام، وامتنع عن الأذان، ولم يؤذن بعد وفاة الرسول الكريم إلا مرة واحدة، حينما زار قبره، ولم يستطع أن يكمل الأذان، ويوم فتح مكة قال الرسول الكريم: «ادخل يا بلال، فلا يصلّينّ معى أحدٌ في جوف الكعبة إلا أنت»!.
آخى الرسول الكريم بينه وبين «أبي رويحة» قبل الهجرة، وفي المدينة بعد الهجرة آخى بينه وبين «أبي عبيدة بن الجراح»، تزوج بلال أخت «عبدالرحمن بن عوف»، «هالة بنت عوف»، ولم يعقب منها، لكن بعض الروايات تشير إلى أنه تزوج أكثر من امرأة وأنجب من بعضهن، مثل «هند الخولانية»، وزوّجه الرسول الكريم امرأة من بني الليث من قبيلة كنانة.
كان شديد السمرة، طويلاً، نحيفاً، كث الشعر، ذا صوت جهوري شجي، غنى في الجاهلية، وأذّن في الإسلام، له أخت اسمها «غُفيرة» وأخ اسمه «خالد»، توفي وعمره ثلاثة وستون عاماً بالطاعون، والذي عرف بطاعون عمواس، ودفن في مقبرة «باب الصغير» بدمشق، وقبره الثابت فيها، والمكان الذي يقع في الأردن، في وادي السير إنما هو مقام بلال، استوطن هناك ردحاً من الزمن، قبل أن يستقر في دمشق.