العالم مجنون بما يكفي ليضرب الحمقى باللئام ويجلس على جنبٍ ليشاهد ضاحكاً ومُصفّقاً للعبة الأكثر لؤماً والنكتة الأشد بذاءة، ماذا أقول لك؟ إننا نتحرك كعرائس الماريونيت على مسرح العالم!
أليست هذه السطور مثيرة؟ غير أن الأكثر إثارة أن تكون هذه الفقرة مقدمة رسالة اعترف فيها أستاذ جامعي بحبه لبطلة الرواية - التي رافقتني في الأيام العشرة الماضية من نهاية العام - كيف هي مشاعر امرأة يبدأ رجل رسالة حبه إليها بهذه السوداوية! كما أني لا أدري كيف سيستقبلني العام الجديد بهذه المقدمة.
لم تهرب بطلتنا في الرواية من حبيبها بعد ذاك التصريح، وإنما ازدادت غرقاً في عشقه، مع العلم أن هذه الفقرة التي بدأ فيها رسالته لم تكن الوحيدة في غرابتها، فقد حدثها بعد ذلك في رسالته مطولاً عن اتفاقية «بريتون وودز» المالية وملابساتها، ثم تطرق لكتاب نيتشه «إنسان مفرط في إنسانيته». تبدو الطريقة غريبة.. ألا تتفقون معي، ولكن من قال إن التعبير عن الحب له صيغة ثابتة! ثم من نحن لنحكم على أفضل الطرق ليصل أحدهم لقلب آخر؟!
عندما تعرفت على زوجي كان - ومازال - يضع عبارة (خذ الحكمة من أفواه المجانين) على واجهة التعريف الخاصة به على الواتس آب، لم أتراجع أمام هذه البداية الغريبة، فأقبلت عليه بقلب مفتوح واستمعت إلى نغمته الخاصة في تقبل الجنون وتعظيم قدره للوصول إلى الحكمة. فغالباً ما ينتج الجنون عن صدمة أو وعي عميق بالعالم وحقيقته المزعجة، وعندما لا يستطيع الشخص التعامل مع الواقع بمنطق عادي، يلجأ إلى منطق آخر يكشف فيه جوانب خفية لا يراها أي كان، وقد شاركته هذه الرؤية. ولهذا لم ألُم بطلة الرواية المغرمة بصاحب هذه النظرة السوداوية للعالم، لعل في نظرته تلك يكمن سر الجاذبية!
فالرجل الذي يكتب رسالة حب يبدأها بتشريح العالم كمسرح عبثي، ربما أراد أن يُخبر بطريقة ما أن الحب هو خيط نجاته الوحيد. وقد يكون حديثه عن اتفاقية «بريتون وودز» ونيتشه مجرد رموز يحاول من خلالها أن يقول لحبيبته: «أنتِ نجاتي من عبث هذا المسرح.. وسط ضجيج الحمقى واللئام»! هذا النوع من الحب لا يشبه ما يعرفه العامة في تعبيراتهم الجاهزة عن مشاعرهم المأخوذة من قصائد الحب والغزل.
ولذا فهذه المقدمة (المقتبسة من رسالة العاشق) تناسب جداً رسالة الحب التي سأرسلها، فهي ليست عن العبث أو السوداوية التي يعيشها العالم، بل عن شجاعتي لتقبله بكل تناقضاته وغرابته.. أليس هذا ما نحتاجه في العام الجديد؟ أن نتوقف عن محاولة جعل العالم مثالياً، وأن نحتضن عبثيته كما هي؟ لتكون الرسالة هنا: إننا في خضم كل هذه الفوضى، نحتاج إلى لحظة صادقة، غريبة، وربما غير متوقعة، لنقول: «أنا أحبك»، سواء للعام الجديد، أو لمن نحب مهما كانوا.. مجانين.