لامست الغيمة، فقالت حياكم، هنا يسكن الغيث، وهنا ترتشف الأرض رياحين السماء، هنا تكمن الحقيقة، حيث النسائم تداعب خصلات، وتقبل شفاهاً، وتحيي العشاق بلمسة، ثم همسة ثم همزة وصل ما بين النون والقلم.
في لحظة التألق، تدفق، وتأنق، ورونق، وحدق يصفو، ورموش تبلل المقلة، وتمشط الجفنين بأهداب كأنها الموجة الناعسة عند شطآن القلب، والروح تهفو لذاك الذي مر من هنا، من طرف خفي، فأغدق النفس، والمحيا يشيح بمخمل الابتسامة رحابة، والسؤال الأزلي يغفو على جملة في الأعماق، استرخت تدعو الله، ورحمة السماء تفيض بماء، وشفاء للروح، هنا في هذا الوطن يبدو الجمال كينونة، مضمونها أننا نفتح نوافذ الصباح في شتاء كأنه النشوة الأبدية في جسد الكائنات، هنا العصفور المرفرف يبوح بحبه، ويسفر عن رفاهية المكان، وبذخ التراب السخي، هنا في هذا الوطن تبدو الروح مثل طائر يحلق في فضاءات، ملأى برائحة، ورياحين، وأرواح تتملك الكون حباً أشف من وريقات الزهر، المطوق بساتين الحياة.
هنا في هذا الموئل الجميل، ترتع غزلان الحياة، وتمضي حقباً نحو غايات الغزل العفيف، تمضي نحو سماوات أصفى من الماء الزلال، هنا في هذا المآل النبيل، ترفع النوق العشار، أعناقاً، في ابتهال بهيج، وفي روعة الحقيقة ومهارة الشتاء، يجدر بالمعنى أن يسرد قصة الحاضر للحاضرين، المتيمين بطبيعة تراب جلله الله بعطر، وسبر، وأسرار الانتماء إلى وجود سارت في دروبه الجياد، تبتغي الهوى، والهوى أسرار، وأخبار، عن زائر قال كلمته في صباحات غائمة، وأبدى ما أبدى من سيرورة النهار البهي، وهو يرفل بقميصه الفضي، والمعطف سماء رائعة، برونق شتائي حالم، بما تجود به السماء من وهج الغيمة، من دفئها، من حلمها، من وجدها في التلاقي بين لام المحبة، وكاف الكفكفة تحت ملاءات القطن الليلي، ورشفات أشهى من طيب الزنجبيل.
مررت على ديار، وديار، كانت الديار تحت رعشة الحاضر تفشي أسرار ماضٍ تولى وما تولت أحلامه، ووجوه، وصور، وهذا المطر الناهض بين خيوط الغيمة، يزجي السير في شرايين وعروق، ويدق نواقيس الفرح، ويدوزن أوتار قطراته، كعازف بمهارة الطبيعة المجللة بفن وشجن.
لمحت في ساعة المطر، وجهاً يشبه وجه الغيمة، وعينين تشعان بلمعة الفرح، لمحتني أنساب كخيط في ثقب إبرة، وانسلّ مغتنماً لحظة وصول المطر، وانتفاضة الغيمة، لمحت ذاك الذي أشعل في قلبي وهج الليالي المبهرة، ولمحتني أغني لأجل وطن لا يشبه إلا نفسه، وطن يحدق في الوجوه ويبتسم، ثم يهمس، قائلاً، فداكم كل هذا الزخ، هذا الخير، فداكم العمر، والمطر، والزهر، والثمر، وما فوق الأرض، وتحت الغيمة.
هو هذا البوح، هذا الصدح، هذه الأغنية الأبدية في زمان الإمارات، في حاضرها البهيج، في مستقبلها الرائق وعداً وعهداً.
هو هذا الغناء يسري في الدماء كما أنه الجين الوراثي في جسد صحيح معافى.