هل يمكن أن ترى وجهاً مصادفة، وتظل تتابعه بنظرك في الزحام، ثم يختفي فجأة، وتنساه لكنك تتذكره بين الحين والحين، في ذاك اليوم تغادر تلك المدينة إلى مدينة أخرى، لكنه يزورك فجأة فيها وفي ذاك الليل مثل كابوس لا تقدر أن تستيقظ منه، وحين تستيقظ يكون الجسد منهداً، والنفس مثقلة من تلك الزيارة الليلية غير المنتظرة، لتظل تتفكر فيما جرى، ولِمَ ظهر ذاك الوجه الذي يشبه صلصال الطين، والذي شَخَص أمامك هذا الصباح وسط الزحام لتتعب بتذكّره.
هل هناك تفسير عقلي لبعض الظواهر التي تحدث لنا في حياتنا أم هي الصدف وما يختزنه العقل الباطن أم هي حسابات ونقاط تقاطع وتواصل مع الأشياء والمظاهر الكونية التي تحيط بنا، ونعيش معها على هذا الكوكب؟
حدث ذلك في ميناء «مارسيليا» الفرنسي، وفي صالة استلام حقائب السفن التي كانت مبحرة في جزر ومدن متوسطية، الصالة مكتظة بالقادمين والمغادرين، في صفوف مُعرّفة بالألوان كتقليد سارت عليه السفن الكبيرة، وهي تودع مسافريها والموانئ.
فجأة وقعت عيناي على شخص طويل يميل للاعتكاف، وضعيف مع بروز لعظام جسده التي تسترها بدلة رمادية بلون الإسمنت مهلهلة، وقد كبرت عليه مع الوقت، يعتمر قبعة على شعر أشمط، ووجه ترابي يكاد أن يتساقط منه، خرج من سلم السفينة التي لم أره فيها خلال الثمانية أيام الحافلة بكل شيء من الفرح والمتعة والسهر والتذكار، كان وحيداً، تكاد أن تصطك عظامه من طول السنين، يقدم عصاته، ويحمل صرة في يده، ذهب مباشرة لحقيبة جلدية غائبة المعالم، وتناولها، وأنا أتابعه من بعيد بنظري، كان وجهه يشبه الرحيل، ورائحته تشبه رائحة الكفن، قاربت بينه وبين شخصية تمثل حاصد الأرواح في فيلم سينمائي يتحضر أو بطل قصة يمكن أن أبقيه في الذاكرة لحين يخرجه القلم من تابوته الخشبي.
كان ذلك حديث النفس عن ذلك الشخص، فجأة التفت صوبي وأخرج عينيه من أعلى إطار نظارته، وركز في وجهي الذي داريته، وكأنني لا أراقبه من بعيد، ووسط هذا الزحام، هي ثوان، واختفى ذلك الوجه الذي يشبه صلصال الطين القديم، بعيون هي خليط من اللون الرمادي والأحمر الفاسد.
لم أتلفت وغيرت مكاني، وخشيت أنه يراقبني من زاوية غير مرئية، مثلما كنت أفعل قبل لحظات، وحده وجهه الصلصالي وهو ينظر لي بقي في الذاكرة، ويعاودها بين الحين والآخر طوال ذاك اليوم، متفكراً فيه؛ هل كان في سفينتنا؟ أم خرج من قاع البحر إلى اليابسة متستراً مع الجموع؟ هل هو مرسل للخراب أم سيشارك مجموعته السرية في طقوس سحرية؟ لماذا أنا الذي تراءى لي، وهل هي إشارة لأمر مقبل؟
تركت «مارسيليا» في ذلك اليوم متوجهاً إلى «ليون» وقد أنستني إياه الساعات والحركة، لكنه زارني ليلاً بنفس السحنة الترابية التي ناظرني بها، مثل كابوس ثقيل بالألم، ومحاولات الخلاص، والنجاة في آخر اللحظات، فبالعادة لا يتعارك شخص مع كابوسه الجاثم على صدره، ويغلبه وسط التشنج وانعدام القوة المنهارة، وأشياء كثيرة تكتف الحركة، ولا تجعلك مثل نفسك، كان وجه صلصال الطين القديم وعراك طال في ظلام ذلك الليل، يُبين بنفس النظرة الشاخصة لرجل عاد من رماد الدفن والحرق، ثم ينهار مترباً في الخفاء!