عندما نغادر فإننا لا نفعل ذلك لكي يشعر الآخرون بقيمتنا.. إنما نغادر في الوقت الذي ندرك فيه قيمتنا. وجدت في هذه العبارة الكثير من السلوان لما أشعر به أحياناً إزاء عزلتي الاختيارية، والتي صنفها البعض انطوائية أو غباءً عاطفياً! والمقصود هنا بالقيمة الحقيقية ليس القدرات والإمكانات التي نملكها إطلاقاً، وإنما القيم التي نعتقد بها ونعيش لتحقيقها والدفاع عنها، تلك القيم التي تجعلنا ننسجم بسلام مع أنفسنا، متوافقين مع ذواتنا.
تضطرنا الظروف كثيراً للدخول في دوائر علاقات لا نكون بالضرورة في قمة الانسجام معها داخل الأسرة والأصدقاء والعمل، ولكنها في أحيان ما تكون في حالة تعارض صارخ مع قيمنا الأساسية وأولوياتنا كالعدالة والحق والشغف، وفي حالة الرغبة في البقاء في هذه العلاقات، فإن ذلك يخلق شعوراً بعدم الانسجام والغربة، وهي حالة تشعر فيها وكأن روحك تحلق خارج المحيط الجغرافي الحقيقي الذي تتشارك فيه مع الآخرين. عندما كنت أعيش ذلك لم أكن أعي ماهيتها، وأمام عجزي سابقاً عن فهمها واستمراري في هذا النوع من العلاقات كنت أخسر كثيراً من طاقتي، والذي أدركته فيما بعد أني كنت أتنازل عن أجزاء من نفسي لضمان استمرار التواصل وتجنب الصدام.
ما كنت أعيشه هو نوع من التكيف السطحي الذي يقوم به الكثيرون جبراً، دون وعي، وهو تأقلم يخلق توتراً داخلياً لا يجعلهم يشعرون بالراحة والانتماء، فالتواجد مع آخرين يعارضون أو يستهينون أو على أقل تقدير لا يفهمون أولوياتك الجوهرية هو أمر يزيد من مساحة عزلتك الفكرية والروحية ويجعلك بعيداً عن نفسك.
نواجه في منظومتنا القيمية التي نؤمن بها معاناة أمام تحديات وتناقضات الحياة الواقعية، ولتخفيف ذلك نحتاج إلى أن نكون في علاقات تخفف هذا القدر الهائل من المعاناة غير المعلنة، علاقات تعد ملاذاً للأمان والتعافي، وهو ما لا يتحقق إلا بتوافر قدر ليس بالقليل من التوافق القيمي مع المقربين، وأنا هنا لا أقصد التطابق. نحتاج علاقات أصيلة يكون الأشخاص فيها قادرين على مشاركة المشاعر التي تعكس أعماقهم، علاقات داعمة تقلص من مساحات العزلة، لا تزيد من تمددها.. إنها العلاقات التي تستدعي بقاءنا وتجعلنا حقاً.. ندرك قيمتنا.