بعد أن حمي الدور، والكاسر يصيح، و«اليَوّيلة» في صدر الميدان، والرصاص يصْليّ ويلعلع، والنعاشات شعورهن تصْلّ من «حَلّ الناريل» على وجوههن، وجمع غفير من الناس متحولقين في تلك الساحة الترابية التي رشتها «فوزة الماء» بأمر من حياة «غريب ولد رويه» قبل بدء فرقة عيالة «خِيريه» عرضها أمام باحة قصر العين، قررت أن أدخل وأنا مغمض العين، طرداً للخوف والتردد، وبدأت ألقط «الجيل» الساقطة من الأولاد، لأنها لا تحتاج لسرعة ولد لا تبدو عليه الغَبرة، وسمين بما يكفي، بحيث يستدعي مزيداً من الوقت لإنجاز ما كان يريده.
قررت المغامرة، كانت المحاولات الأولى ناجحة، التركيز على الأولاد الخارجين من الميدان بسرعاتهم وارتباكاتهم، وما يتساقط منهم، لو أن بعضاً منهم، وفي الحسبة الأخيرة يجبرني على إعادة بعض «الجيل» لأنها ملكه، وسقطت منه، ولأنني كنت أتجنب العراك في العادة، خوفاً على الوجه في غالب الأحيان، وتلك عادة رافقتني حتى الكبر.
وبعد محاولات ناجحة، قلت - وهي عادة أيضاً رافقتني حتى الكبر- : «خلاص هذه آخر مرة»! وآخر مرة عادة ما تعاكسني، وتكون فاشلة أو نتائجها غير متوقعة، دخلت متسللاً بين صفوف الأولاد الهاربين، والذين يتبعهم سباب وشتائم وتحذيرات «خِيريه»، التقطت أول «جيلتين» ثم هممت بالنهوض، وكدت أتعثر بأحد الراقصين في الميدان بمحزمه وبندقيته، وأن أسقط عقاله المشروخ، وغترته المنسدل طرفها الطويل على صدره، وأشكر الله لأنني لم أفعل، وإلا لا أدري مصيري ومستقبلي بعد ذاك «الغَيّ» وحتى اليوم، صرخ عليّ، وطفرت واقفاً، وإذا بي بمحاذاة خاصرة «خِيريه»، والحمد لله ثانية أنني لم أكن على جهته اليمنى، حيث يحمل ذاك «القب» الذي يعتنّ به الطبل، وإلا لن يتوانى أن يشرخ به رأسي أو يهوي به على وجهي الذي أخاف عليه أكثر من أي شيء، زمجر «خِيريه» ورأيت شرراً في عينيه، وكدت أسقط لأن ركبي خارت، لكن لطمته بيسار يده أيقظتني، وقفزت قفزتين متناسياً أي وزن زائد حينها، وإذا بي خارج حلبة الرقص، ومنها وطرف كندورتي في فمي، آخذاً الطريق من قصر العين لبيتنا في «الربينه» في دقائق، أعجز عنها في الأيام العادية، وأنا أمرّ عادة ماشياً أتأمل بيت بن دسمال، وبيت حمامة، وبيت بن عباس، وبيت غريسة، وبيت عمير بن يوسف وبيت حياة صالح السويدي، وبيت بن خلفون، وبيت سارة وآمنة بنت كرم، ومنعطف بيت سعيد بن محمد إلى بيتنا، وزبنت ساعتها عند عمتي «رويه» التي كانت تشبه شجرة التين في بيت الطين، من دون أن أدري سبباً لذلك! لكنني أعرف أنها أخت رجال، وأنها كانت تردد مثلها الذي يعني صلابة الوجه، وقوة الحضور: «ساكنة حسيفين، ولا أبالي بسواد الوجه»!
سكنت بقربها، بمحاذاة «الصريدان»، ودلالها الأرسلان تغلي على حطب السمر، ويدي تقبض على بعض «جيل» في جيب كندورتي العربية «أم  كلفس».