(فكرة) هي الحياة فكرة، وكل منا في داخله شيء ما يزعجه، واصل الشيء هذا فكرة، فنحن الذين نصنع الأفكار ونحن الذين نتعلق بها، ثم نصبح أدوات لها، لا نستطيع التملص من قبضتها، ولا يمكننا الذهاب عنها بعيداً.
القيم والمبادئ والمعتقدات، والعادات، والتقاليد أصلها فكرة، نحن الذين نسقيها، وننميها، ونعتني بها، نحن الذين نجعلها مسماراً في لوح ألواح عقولنا، بل نشعر بالانتماء إليها ولا نرى في الخلاص منها غير خيانة للضمير، ولا نجد بؤرة خطر، أخطر من الهروب من أفكارنا، فكل الذين يفرون من أفكارهم، هم يعيشون خارج الأفكار، هم يفرون من ذواتهم، هم يسقطون من حساباتهم، قيمة الفكرة التي يهربون منها، ولا يستيقظون إلا بعد فوات الأوان، وبعدها تتم عملية البحث عن الفكرة الضائعة، فلا يجدونها إلا في مكبات التلاشي، لا يعثرون عليها إلا في مناطق داكنة، وأحياناً معتمة، بحيث لا يرون ما يبحثون عنه، إلا في طيات الحصر المخبأة في عوالم النسيان.
نحن اليوم نعيش مشاهد مريعة، من فعل الأفكار، لأنه ليس من الضروري أن تكون الأفكار دائماً صحيحة، ولا صحيح إلا التعلق بهذه الأفكار، فهو المعضلة الكبرى التي تحول الإنسان المتعلق بفكرة ما إلى كائن هلامي، فظيع، ومخيف، لأن الفكرة قد تكون وحشية، ودموية، عدائية، وكارهة، وعبثية، ولكن المرء المتعلق بمثل هذه الفكرة، لا يعي، بما يتعلق به سوى أنه يظل متعلقاً بالفكرة، قد يهدم بيت العز والشرف، وقد يهوي بالضمير إلى حضيض ورضيض، وقد يدمر البنية الجمالية في الأشياء بدءاً من الوطن، ومروراً بالعلاقات الزوجية، وانتهاء بالنسيج الاجتماعي.
فالفكرة، عندما تقع في مشجب التعلق، تصبح مستبدة، ومتغطرسة، لا يمكن فهم مغزاها سوى أنها فكرة لا يستطيع المتعلق بها إلا أن يصر على ما يتعلق به من فكرة.
لهذا قيل قديماً العلم في الصغر، كالنقش في الحجر، لأن الأفكار التي تنشأ مع نشوء الإنسان تصبح جزءاً من كيانه، تشكله، وتنمّقه، وتلونه، وتجعله كينونة معقدة لا يمكن تمحيصها ولا تفسيرها، إلا بالميل إلى تحليل نفسي عميق ومركز.
اليوم نسمع عن ارتكاب بعض الأشخاص جرائم مريعة، ولا يصدقها عقل، ولكن من يرتكب هذه الجرائم يشعر بالسعادة، وهنا مربط الفرس، فكيف يكون للجريمة النكراء كل هذا الارتياح؟ فقط لأن من ارتكبها متعلق بفكرة، الفكرة توحي له أن ما يقوم به، منطقي، ويجب القيام به.
وهكذا عندما ننتقل إلى ما هو أوسع من الجرائم الفردية، نجد أن الحروب الطاحنة، والصراعات العرقية، والطائفية، واللونية جميعها تنتمي إلى نفس المبدأ، مبدأ التعلق بالأفكار.
ومتى ما أردنا الفكاك من هذه المعضلة علينا أن ننشئ بشراً أشبه بالبحر، فهو ينظف نفسه بنفسه، وبالحركة، والشفافية يستطيع أن يطرد عن نفسه آفة التعلق، ويبقى أمداً، من دون قمامة تعكر صفوه.