كان المطر يهطل في الشتاء خيوطاً تصل السماء بالأرض، وحين ترتطم بالإسفلت تتجزأ وتصير إلى قطرات، تشبه الفقاعات، تبرق وتتدحرج على الإسفلت باتجاه انحدار الشارع، ثم تصير سيلاً وتهدر حين تصل إلى فتحات المصارف التي تتوزع على امتداد شارع المرقاب، ولا تعيق السير.
المطر كان يغسل الشوارع ويتألق بين السماء والأرض والرغبات، كأنه حين يلامس الأرض كرات زجاجية صغيرة كتلك التي يتبارى الأطفال باللعب بها، السحب تلعب أيضاً، حين تدحرج كراتها الزجاجية دون أن تتبارى مع أحد، الحياة أيضاً لعبة كبيرة، لكن الإنسان يستصغر اللعب ويقول بالفرق بين الجد واللعب، ويعتبر الحياة لعبة جادة، لكني لا أحب أن أقرن اللعب بالجد أو أعلي الجد على اللعب، فالحياة لعبة الكائن الإنساني، وكلنا نلعب، وحين ندرك تلك الحقيقة سيكون للحياة طعم أجمل وأسلس، ويكون لأفعالنا قيمة أعلى حين لا يكون البحث عن القيمة هي الغاية وحدها.
قالت صديقتي: لكنك تناقضين هذا القول في كتاباتك وفي نصوصك الشعرية، قلت ذلك أني سليلة الجدية التي لا طائل لها، وإذا كانت كتاباتي جادة فإنني قد فشلت في جعلها لعباً خالصاً، صافياً، وأكون بعد لم أنجح في جعلها قيمة خارجة على الجدية، الشعر ينبغي أن يكون هو اللعب الطفولي للشاعر في هذه الحياة التي لا نعرف جدها من هزلها، وعلى الشاعر أن يكتب تماماً كما يلعب الأطفال بالرمل دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عن الجدية.
وفي هذا اللعب الصافي يكتشف الإنسان وجوده وارتباطه بهذا الوجود، هل تأملت طفلاً يلعب بالرمل مثلاً، يكوره أو ينثره منبهراً مأخوذاً، يجسد المرئيات التي تحيط به، دون أن يقصد معرفتها، ودون أن يرسم غاية لهذا الفعل الذي نسميه نحن الكبار لعباً، والشاعر حين يجسد ما حوله إنما يعيد صياغة ما يراه ويعيشه في فعل يجرد المرئي من جديته كي يرتقي إلى ذلك الصفاء الذي تشع به روحه، الشعر الذي يتسم بالجدية هو شعر ذهني بارد لا نبض للحياة فيه، شعر وظيفي، غائي، والطفل حين ينهمك في تجريبه للكشف والمعرفة، نسمي فعله لعباً، استصغاراً لهذا الفعل الذي لا يرقى إلى مفهوم العمل ذي الغاية المرسومة والذي نسميه جاداً، وبينما أن كل الكائنات موجودة لغاية لا تدرك سوى وجودها، فإن الإنسان يريد أن يبتكر غاية لوجوده، ونسميها بالجدية.
كانت صديقتي تنصت وأنا مسترسلة في الكلام، كأنني ألعب بالكرات الزجاجية التي يبعثها المطر، لتفوز على جديتها التي تعارض لعبي بالكلام وبلعبة المطر..!.