لا أعرف هل هي سُنة طبيعية في تكويننا العمري، ما نمر به من رغبة شرسة نبديها للكثير من الأشياء حولنا، مندفعين لتغييرها بإصرار وعناد، أم هي حالة جهل كان يمكن تداركها في سن مبكرة لتلافي تداعياتها النفسية والصحية بوعي عال؟ يبدو أننا نميل إلى فضائل معينة حسب احتياجاتنا في كل مرحلة من حياتنا، ففي الوقت الذي نكون في أشد التعلق بالمثالية وسعينا في سبيلها إلى التغيير والمقاومة عندما نكون أصغر عمراً، تختلف في وقت آخر عندما نكبر فنصبح أكثر رغبة في السلام، فنميل للقبول والرضى والتعامل بلطف مع أكثر الأمور بعيداً عن المثالية.
عندما نكبر نعترف -بناء على اكتشافاتنا- بحدود سيطرتنا الإنسانية وقدرتنا المحدودة على التحكم بالأحداث والظروف المحيطة، ويزداد استيعابنا بأن الإطلاق الذي كنا نحكم به على الأمور قبلاً ما هو إلا صرح تتداعى أركانه كل يوم أمام واقع تجاربنا الواقعية، ربما هو نضج متأخر، أو لعله حكمة تتسلل إلينا بعد أن أنهكتنا التجارب وأثقلتنا الخيبات، ونكتشف حينها أن التغيير ليس دائماً معركة نخوضها لننتصر، بل أحياناً رحلة تقودنا للتصالح مع ما لا نستطيع تغييره.
نتعلم أن المثالية، التي كانت تضيء مسارنا كفانوس، قد تكون أحياناً وهماً يستهلكنا أكثر مما يوجهنا. نتعلم أن الحياة ليست صراعاً دائماً بين ما نريد وما هو كائن، بل أحياناً هي مجرد تقبل جميل للحظة الراهنة، بكل نقائصها ونواقصها. في هذا الإدراك الجديد يصبح السلام الداخلي أعظم من أي طموح آخر. إن اللطف مع الذات ومع الآخرين هو أعظم هدية نقدمها لأنفسنا في مواجهة عالم لا يخلو من القسوة.
غير أن هذه الدروس ما كانت لتأتي لولا ذلك العمق المكتسب من قهر التحديات وخيبات التجارب. فالاندفاعات المبكرة هي التي جعلتنا نتساءل ونسعى ونغيّر ونرتكب الأخطاء. في حين كان القبول في تلك المرحلة سيُفقدنا الحماس للاستكشاف، والشجاعة لتحدي المألوف، والرغبة في تغيير العالم أو أنفسنا. أحياناً، الصراعات هي التي تجعل القبول لاحقاً أكثر عمقاً وصدقاً، لأنه يأتي بعد فهم أعمق لحدودنا.