ليس هناك من مناسبة للاحتفاء بالقيم الإنسانية، أجمل ولا أكبر وأبلغ من الألعاب الأولمبية التي كلما حل لها موعد في زمننا المتسارع، مرة كل أربع سنوات، شاهدنا ما يبرز جوانب العدالة والروح الرياضية والسمو والمساواة وأخلاق الفروسية التي لا تتكرر كثيراً في معيشنا اليومي، كما أن هذه الألعاب الأولمبية هي المرآة العاكسة لنجاعة التنزيل للاستراتيجيات الرياضية، وهي الحكم الفصل على المنظومات الرياضية، فلا مجال إذاً للمزايدة عندما تنزل أحكام الدورة الأولمبية على قيمة المنظور الرياضي لأي بلد، فالمحصلة بلغة الأرقام تنطق بنسب عالية بحقيقة الوضع الرياضي.
واحتكاماً لهذه الأرقام التي لا تخطئ، فإننا ونحن نطالع جدول الميداليات، نجد صدى من التنافس القوي بين القوى العظمى الذي يتكرر كل أربع سنوات بدرجة الحدة والشراسة نفسها، ونجد تصديقاً لما تذهب إليه المؤشرات، ففرنسا مثلاً راهنت على أن تدخل خانة الخمس دول الأقوى في ترتيب الميداليات، وتأتى لها ذلك، فأقرنت تنظيم عاصمتها باريس للألعاب الأولمبية بزيادة حصادها من الميداليات بنسبة 50 بالمائة قياساً بآخر أولمبياد لها، فجمعت نحو 64 ميدالية، منها 16 ذهبية، وهو ضعف ما جمعته في أولمبياد طوكيو 2021، عندما حققت 33 ميدالية، منها 10 ذهبيات.
ولعل هذه المؤشرات ذاتها التي تبرزها في العادة البطولات العالمية والدورات القارية، هي التي جعلتنا لا نتفاءل بحصاد كبير للرياضة العربية في دورة باريس، رغم أن كثيراً من دولنا العربية لا تعوزها لا الإمكانات المادية ولا البنى التحتية ولا حتى الإرادات السياسية لكي تحدث طفرة نوعية في حصادها الأولمبي، فما حققته الرياضة العربية في دورة باريس، ارتقاء في عدد الميداليات الذهبية (7 ذهبيات)، مقارنة بأولمبياد طوكيو الذي تحققت خلاله 5 ذهبيات للرياضيين العرب، بينما تراجع المحصول العام بميدالية واحدة، فبينما جمعوا 18 ميدالية في طوكيو، تحصلوا في دورة باريس على 17 ميدالية فقط.
ومع اختلاف المسببات وحتى المعطلات، سواء في تشكيل الرؤية أم في بناء الاستراتيجيات، باختلاف الوضعيات الرياضية للدول العربية، فإن استقرار الحصاد العربي في الدورات الأولمبية الأخيرة، في رقم يستفز ويستنفر، ينبئ بحقيقتين، الأولى أن العمل باستراتيجية منبثقة عن رؤية، من دون تعميم هذا الأمر على كل الدول العربية، لا يتأسس على قواعد احترافية تحترم الأجندة الزمنية الطبيعية التي يحتاجها تصنيع الأبطال الأولمبيين، والتي تطول أو تقصر بحسب النوع الرياضي والجوانب المهارية عند الرياضيين.
والثانية أن منظومات العمل الرياضي لا تأخذ بالاعتبار الصعود المتواتر لمؤشر المستوى العالي، وقد شاهدنا لذلك دليلاً في دورة باريس، التي تحكم بالرسوب الفوري على كل رياضي لا يقترب حتى من هذه المستويات العالية، والتي ستزداد علواً خلال دورة لوس أنجلوس بعد أربع سنوات.
ما كان بأولمبياد باريس، إخفاق للرياضة العربية، من دون التنقيص من إنجازات من بلغوا البوديوم الأولمبي. إخفاق يستوجب خططاً كاملة على نظام العمل وطريقة بناء الاستراتيجيات، وإلا فإن الاختبار الأولمبي القادم سيكون رسوباً أفظع وأنكى.