لم يمر على مفهوم العقد الاجتماعي أي اختراقٍ أصولي مثل المرحلة الحاليّة. قوى معينة اختطفتْ عن طرق الخطوة السياسية والخطاب السياسي مجموعة من المفاهيم والمفردات بغية التسويق لمشروعها في الإقليم.
وما كان ذلك عبثاً وإنما له درسه وخطّه ومساره وتدريبه وتبويبه لصياغة عناوين ظاهرها المدنية. ولغرض تقييم الخطاب العمومي الذي يمارس اليوم لا بد من الانتباه بأن مفاهيم أساسية في علم الاجتماع يمكن اللعب بها والعنونة الأصولية عليها، وذلك منذ قرنٍ من الزمان. الآن قوى الانشقاق تستعمل مفاهيم مثل: «الدولة»، و«الحقوق»، و«القانون»، وهذا يعبّر عن انتقالٍ خطير من رحلة السلاح إلى حيلة المفهوم، والسبب أن الآصرة المجتمعية لهم لم تعد تُصدّق الخطاب القديم؛ ولذلك يريدون تجديد أساليب التوجّه المتمرد بصيغٍ أكثر تحوّلاً من تلك التي كانوا يستخدمونها من قبل.
كما أن الجيل الصاعد لا يعرف من هم هؤلاء بالمعنى العلمي، وما عاصر حركتهم الكارثية، وإنما هو رعيلٌ مشغول في الدراسة، أو الرياضة، وبالحيوية المدنيّة بعمومها، ومحبّ لدولته وناسه ومحيطه. ولكنّ الأصوليين لمّا أدركوا أن هذا الجيل يصعب الوصول إلى دماغه، وحاد في مدنيته ورفاهيته أراد استعمال مفاهيم أخرى لغزو العقول. لم يسبق لتنظيمٍ متطرف أن آمن بمفاهيم فلسفية على الإطلاق، ولكنهم اليوم يتداولون مفهوم العقد الاجتماعي في كل كلمةٍ وخطاب لغرض الانقضاض.
يمرّ الإقليم بتحوّل جيوسياسي عارم، وأحسبه من صالح الاعتدال على المدى البعيد، وبخاصةٍ في الهلال الخصيب، وفي اليمن، رغم أن التكلفة الإنسانية ستكون عالية للغاية، ولكن آخر الدواء الكيّ. وسلسلة التشويش على النظرية السياسية الليبرالية أو العلمانية لن تنجح، ثمة من يطرح خطابات تمدد، بل وإرادة تثوير ضد الدول، وهذا خطر محض لا بد من المبادرة لإزالته مهما غيّر العبارة أو استخدم أي مفهوم فلسفي أو مدني، فهم مازالوا يستخدمون الرافعة الأصولية والممارسات المتطرفة كما كانوا في تاريخهم العام.
وعلى موضوع «العقد الاجتماعي»، أستعيد المؤسس الرئيسي لهذا الفتح الفلسفي جان جاك روسو في شرحٍ لا بد من فهمه وتمثّله حين يكتب: «الميثاق الاجتماعي، ينطلق من مجرد افتراض، لا من مرحلة تاريخية معينة، وهو أن البشر في وقتٍ ما أصبحوا غير قادرين على متابعة حياتهم في الحالة الطبيعية... إن كل من رفض طاعة الإرادة العامة يرغَم عليها من طرف الجسم بأكمله، وذلك لا يعني سوى أنه يجبَر على أن يكون حراً، لأن ذلك هو الشرط الذي يَهبه كل مواطنٍ لنفسه لوطنٍ يضمن له أن يتخلّص من كل نوعٍ من التبعية الشخصية... إن الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية يُحدث في الإنسان تغيّراً بارزاً جداً يجعل العدالة تحلّ في تصرفه»..
الخلاصة؛ أن المعاني العالية للمفهوم تتجلّى في تطبيقها وليس في نطقها، وهذا الأساس الذي تبنى عليه التغييرات الكبرى، ولا يمكن تطبيق هذا العقد من دون أصالة قانونية تؤيد هذا المعنى.
* كاتب سعودي