ربَّما تكون تجربة «النَّزاريَّة، أو ما أصطلح عليها بالحشاشين، مِن بين تجارب الفرق الدينية النَّادرة في تحولها، مِن العنف إلى المدنية والفنون والثَّقافة، تمثلها اليوم «اللأغاخانيَّة»، صاحبة مراكز البحوث، والمكتبات، والاهتمام بالعِمارة، التي أفردت جائزة عالميَّة لها. بالمقابل ما يُعرف عن«جبهة النّصرة»، أو«هيئة تحرير الشَّام»، كانت مؤطرة في «القاعدة»، تُعد مِن «السلفيات الجهاديَّة»، ومارست ذلك في الميادين الملتهبة كافة، إلا أنَّ ظهورها وهي تستلم السلطة بسوريا (يوم 8 ديسمبر2024)، كان مفاجأة، ومفاجأة أيضاً ما سمعناه مِن زعيمها، المتخلي عن لقبه الجهادي «الجولانيّ»، بأنَّ العلاقة مع «القاعدة» أصبحت ماضياً، والأخذ بالمدنيّة.

أقول: إذا اختبر ذلك وتحقق فيُعد تغييراً جذرياً، لنا اقترانه بما حصل للنزاريَّة، عندما كفت عن العنف ضد العباسيين والفاطميين، حتى طال عنفها ملوك وأمراء أوروبا. راجعت النّزاريَّة نفسها وتراجعت، بعد أكثر مِن مئة عام: في هذه السَّنة (608 هجرية) أظهر الإسماعيليَّة، ومقدمهم الجلال الصبّاح، الانتقال عن فعل المحرمات واستحلالها، وأَمر بإقامة الصَّلوات، وشرائع الإسلام ببلادهم مِن خُراسان والشَّام، وأرسل مقدمهم رُسلاً إلى الخليفة (العباسي)، وغيره مِن ملوك الإسلام، تخبرهم بذلك، وأَرسل والدته إلى الحجِّ، فأُكرمت ببغداد إكراماً عظيماً، وكذلك بطريق مكة» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ)، وهم الآن جماعة الأغاخان، يساهمون بدعم الثقافة والفنون عالمياً.

كنا أخذنا برأي المؤرخ حسن الأمين (ت: 2002)، عن تسمية الحشاشين نسبة إلى الحشائش الطبيّة (الأمين، الإسماعيليون والمغول)، تبرئة لهم مِن استعمال المخدر، لكنَّ بعد الاطلاع على مصادر مهمة، نجد رأي الأمين غير دقيقٍ، فهناك جماعة عُرفت بـ «الحشيشيَّة»، أيّ كانوا يأخذون الحشيش المخدر، «وهم قومٌ في تلك الدِّيار، يرمون نفوسهم على الملوك، فيقتلونهم ويُقتلون، ويرون ذلك دينيّاً» (ابن دَعثم، السّيرة الشَّريفة المنصوريَّة).

قصد ابن دعثم الصَّنعانيّ (ت: 615هج) - شيعيّ زيديّ المذهب - القبض على أربعة أسرى مِن الحشيشيَّة النَّزاريّين. فليس الرَّحالة الإيطاليّ ماركو بولو(ت: 1324م) مَن أطلق تسمية «الحشاشين»، إنما كانت أقدم منه بكثير. بدأ تنظيم النّزارية، بعد الانشقاق عن الإسماعيليَّة الفاطميَّة بمصر، القرن الخامس الهجريّ، لسبب سياسي، وهو اختيار المستعلي بن المستنصر الفاطمي بدلاً عن أخيه نزار بن المستنصر، المستحق لولاية العهد، الذي اعتقل فخرج مؤيدوه بقيادة حسن الصَّباح (ت: 518هج)، وكان أسلوبهم الاغتيال، فمِن أبرز المقتولين بخناجرهم الوزير السلجوقي نظام الملك (485 هج)، والخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله (524 هج)، ومحاولة اغتيال السُّلطان صلاح الدين الأيوبي (569 هج) بحلب.

مثلما كان النّزاريَّة يمارسون العنف تحت تأثير المخدر، كذلك نُقل عن الجماعات الإرهابية الانتحاريين اليوم تعاطي المخدر في عملياتها، فالإقدام على قتل النفس والغير، مِن أجل دخول الجنة، يتطلب تغييب العقل. كانت تجربة «النّزاريّة» مريرة، للذين قتلوا بخناجرهم، وللمقتولين منهم، ففي وقائع كثيرة قدموا أنفسهم كانتحاريين، فكانوا يعرضون أنفسهم للقتل عند تنفيذ الاغتيال، «يرمون نفوسهم على الملوك، فيقتلونهم ويُقتلون، ويرون ذلك دينياً».

صحيح، أنَّ المغول قدموا إلى العالم الإسلامي، حتى اجتاحوا بغداد(656 هج)، بسبب قلاع الحشاشين، وأبرزها«قعلة ألموت» بقزوين، لكن قبل هذا بثلاثة عقود، مالوا بالعراق إلى نبذ العنف مثلما تقدم. إنَّ الأسباب الموجبة لمراجعة النَّزاريَّة لأنفسهم أنَّهم طوال مئة عام ظل ملكهم محصوراً في القلاع، ولم يتمكنوا الانتصار على أحدٍ، وتأسيس دولة، ناهيك عن أنَّ الخلافة الفاطميَّة الإسماعيلية بمصر قد سقطت(566 هج).

أمَّا عن النّصرة أو«هيئة تحرير الشَّام»، فإنّها تسلمت الأمر بسوريا، بمفاجأة لم تحسب حسابها، وهي على فكرها وأسلوبها السابق لم تتمكن مِن الاستمرار، عليها التمييز بين السلطة والبناء، والمعارضة والهدم، وهجر الماضي تماماً، فسوريا ليست أفغانستان، كي يؤخذ بنموذج «طالبان»، وإذا أرادت العمران، وتسجيل بادرة مختلفة عن تاريخها، تأخذ بنموذج النّزاريَّة، عندما تحولت إلى الثقافة والعمران.

*كاتب عراقي