(35) أَرْجُو نَدَاكَ ولَا أَخْشَى المِطَالَ بِهِ * يَا مَنْ إِذَا وَهَبَ الدُّنْيَا فَقَدْ بَخِلَا
هذا بيت من مَدْحيّاتِ أبي الطيب. 
وأَحسَبُ أن المتنبي كان يتعامل مع شعر المديح تعاملاً مختلفاً، فهو يعرف أن جُلّ من يمدحهم، اعتادوا المديح، وألفوه، لكثرة ما مُدحوا، فإذا لم تمدحهم مدحاً يلفت الأعناق، فلن يعتَدَّ أحد منهم بمديحك. لذا كان المتنبي يعتني بمدحه عناية فائقة، وبخاصة المدح، كان أهم غرض في شعر أبي الطيِّب، وهو معظم ديوانه، إذ يبلغ نحو ثلثيْ أبيات الديوان. ولم يكن المدح في الشعر العربي حتى نهايات القرن السادس الهجري مَعرَّةً وإنما هو غرضٌ للقول كغيره من الأغراض، بل لعله أخطرُها، يُجري فيه الشاعر صولاته الكلامية ليفوز فوزيْن: الشُّهرةَ والمال.
والمبالغة في المدح طبيعية، فلو كان المدح بلا مبالغة، لكان كلاماً من سائر الكلام اليومي، الذي لا ميزة فيه، ولذلك فأظن المبالغة في المديح طبيعية، وهي متوقعة، لا تفاجئ الممدوح، ولا السامع، في الغالب. إن المبالغة سعيٌ إلى بلوغ غاية الأشياء!
(أَرْجُو نَدَاكَ): أتطلع لعطائك ووصلك. 
أرجو: آمل. 
نداك: النَّدَى، المطر، وهو الجُودُ والسخاءُ والعطاءُ. 
والمعنى: أنتظر أُعطيتَك وجُودَك.
(لَا أَخْشَى المِطَال): لا أخاف المِطَال، المطل: هو التسويف والمماطلة، ومَدُّ الشيء وإطالته. أي أنه واثق بأنه سيُعطي عطاءً عاجلاً، بلا تسويف، ولا تمديد، في أداء العطاء.
وما شَكَّل لدى الشاعر هذا اليقين والثقة في ممدوحه، هو ما شرحه في عَجُز البيت، بقوله مخاطبًا الممدوح:
يَا مَنْ إِذَا وَهَبَ الدُّنْيَا فَقَدْ بَخِلَا
يقول للممدوح: إن من عظيم سخائك وكرمك، إذا وهبتَ الدنيا، بما فيها، على عظمتها، فإنك تبدو كالبخيل في هذه الهبة، إذ إنَّكَ تُقلِّلُها، بالنظر لعُلوِّ نفسك، وبالغ كرمك.
وهو نحو، قول حسَّان: 
يُعْطِى الجَزِيلَ وَلا يَرَاهُ عِنْدَهُ * إلاَّ كَبَعْضِ عَطِيَّةِ المَذْمُومِ
ومن قول أبي العتاهية: 
إنّي لأَيأَسُ مِنْها ثُمَّ يُطْمِعُنِي * فِيها احْتِقارُكَ للدُّنيْا وَما فِيها


(36) مَا كُلُّ مَنْ طَلَبَ المَعَالِي نَافِذاً * فِيهَا ولَا كُلُّ الرِّجَالِ فُحُولَا
قبل هذا البيت، يقول المتنبي:
نَطَقَتْ بِسُؤْدَدِكَ الحَمَامُ تَغَنِّياً * وبِمَا تُجَشِّمُهَا الجِيَادُ صَهِيلَا
وبلغ إعجاب ابن جني، بالبيتين السالفين، مبلغاً عظيماً، حتى قال: «أَشْهَدُ لَو أنَّهُ خَرَسَ بَعْدَ هَذَينِ البَيتَينِ، لَكَانَ أشْعَرَ النَّاسِ، والسَّلامُ».
يقول: ليس كُلُّ من ابتغى المنازل العالية، قادراً على بلوغها، وليس كل الرجال فحولَا. وفيه أن اختيار الحق، لا يعني بالضرورة، بلوغ أعلى مراتبه، وبلوغ الحق شيء، ليس مرتبطاً بالضرورة ببلوغ معاليه. إن بلوغ الحق هو بلوغ للمعالي مقارنة بغير الحق، وفي الحق نفسه درجات، لا يقتضي بلوغه، الوصولَ إلى أعلاها.
نافذاً: رجُلٌ نافذٌ في أمره: ماضٍ في جميع شأنه، ناجح فيه، فكأنَّه نفذ أي دخل واستقر في منطقة النجاح. يُريد: ليس كل من قصد المعالي، نجح في مقصده.
فحولاً: فحول جمع فحل، وهو الرجل الشجاع، مكتمل الرجولة، وذلك يتحقق بالكرم والمروءة. إن أصل وصف الفحولة، مختص بالقوة عند الذكر. والفحل عند العرب: الذكر الشديد من الإبل، والرجل القوي ظاهر الرجولة، ولذلك ارتبطت الفحولة بالذكورة. وأُخذ التميز والقوة من الفحولة الأصلية، فأصبح البارعون من الشعراء، في شعرهم، يُقال لهم: فحول الشعراء. وألَّفَ الأصمعي (ت 216 هـ) كتابه: (فحولة الشعراء)، كما وضعَ محمد بن سلَّام الجُمَحِيُّ (ت 231 هـ)، كتابه: (طبقات فحول الشعراء).
قال ابن وكيع التنيسي، عن بيت القصيد للمتنبي: إنه « يُشبه قول ابن أبي داود: 
أَكُلَّ امْرِئٍ تحسبينَ امْرَأً * وَنَاراً تَوَقَّدُ بِاللَيلِ نَارَا
وينظر إلى قول البحتري: 
وَأَعْلَمُ مَا كُلُّ الرِّجَالِ مُشَيَّعٌ * وَلَا كُلُّ أَسْيَافِ الرِّجالِ حُسامُ».