يبدو أن توازنات القوى على المستوى الإقليمي ستعاني من تغيرات كبيرة في العام الجديد، وذلك بسبب التراكمات والتغيرات الجوهرية التي شهدها العالم في الأعوام الثلاثة الماضية، والتوقعات المرتقبة في العام الحالي، والتي بدأت العديد من دول العالم التحضير لها، سواء على مستوى كل دولة، أم على المستوى الإقليمي.
وفي الولايات المتحدة الأميركية، تصر الإدارة القادمة على تحقيق مكاسب على حساب الدول الأخرى، من خلال استخدام النفوذ والضغوط المختلفة،، كتغيير القوانين والأنظمة التجارية، والتهديد باحتلال جزيرة «غرين لاند» التابعة للدنمارك، والتي اتخذت بدورها إجراءات حمائية لمنع ذلك، بالإضافة إلى دعوتها كندا كي تصبح الولاية الحادية والخمسين، تجنباً للرسوم الجمركية العالية، في محاولة لتحقيق بعض المكاسب الاقتصادية التي ستعزز من وضعها المالي والتجاري.
وتحاول الصين بدورها بناء تحالفات تجارية ومالية جديدة لتعويض التراجع المتوقع لتعاملاتها مع واشنطن، وبالأخص مع دول الشرق الأوسط وروسيا التي ستشهد انتعاشاً مع انتهاء حرب أوكرانيا، وإلغاء العقوبات المفروضة عليها، علماً بأن بكين قد تواجه بعض المصاعب في توجهاتها بسبب علاقاتها المتوترة مع الهند، حيث تجمعهما مجموعة «بريكس» التي تعاني بدورها بعضَ التجاذبات، كإعلان الهند مؤخراً أن «لا مصلحة لها في إضعاف الدولار»، إذ يبدو أن ذلك يأتي استعداداً لمرحلة ترامب الثانية، والذي كان قد أعلن توجهه للدفاع عن الدولار وموقعه القيادي في التعاملات المالية الدولية.
أما الاتحاد الأوروبي فسيكون أكثر المتضررين من هذه التغيرات، فاقتصاديات دوله الأعضاء عانت، خلال السنوات الثلاث الماضية، من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أكثر من غيرها، والتي كبدتها تكاليف باهظة، سواء بسبب ارتفاع تكاليف استيراد النفط والغاز أم بسبب المساعدات الكبيرة التي قدمتها لأوكرانيا، حيث أدى ذلك إلى ارتفاع العجوزات، وإفلاس آلاف الشركات في دول الاتحاد، في وقت سيضغط فيه الرئيس ترامب من أجل زيادة المساهمات الأوروبية في ميزانية حلف «الناتو».
لذا فإن المشهد الاقتصادي الأوروبي لا يبدو مريحاً للدول الأعضاء في العام الجديد، حيث سيتجاوز عجز الموازنة الفرنسية 5%، وفق وزير المالية الفرنسي، كما سيصل حجم الديون 112% من الناتج المحلي الإجمالي، ما ينذر بالمزيد من الأزمات في فرنسا، ومعها ألمانيا أيضاً، إذ لن يتجاوز معدل النمو فيهما 1%. وعلى هذه الخلفية جاء دعوة رئيس البنك المركزي الفرنسي إلى «إصلاح مالية البلاد».
وفي منطقة الشرق الأوسط، فإن الأوضاع مرشحة للاحتمالات كافة، حيث سيعتمد ذلك على الفرص المتوفرة لحل النزاعات المندلعة، ما يعني أن الأوضاع الاقتصادية في هذه المنطقة ستتفاوت بين مجموعة وأخرى؛ فدول شمال أفريقيا ستحافظ على معدلات النمو المعتدلة لديها بفضل الاستقرار السياسي، وبقاء أسعار النفط عند معدلاتها الحالية، وهو ما سيشكل أهمية للدول المصدرة والمستوردة للنفط على حد سواء.
وفيما يتعلق بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وغرب آسيا، فإن عدم استقرار الأوضاع السياسية والأمنية سيجد له انعكاسات مؤثرة على الأوضاع الاقتصادية لهذه المنطقة، والتي رغم التحسن المتوقع لاقتصادات بعض دولها، فإن أوضاع دول منها أخرى لبنان وسوريا وفلسطين وإسرائيل ستكون عرضة لتحديات اقتصادية كبيرة ستحدد مدى إمكانية قدراتها على تجاوز أحداث عام 2024 والتي ألحقت بها خسائر هائلة تتطلب جهوداً كبيرة وقدرات ماليةً ضخمة لتجاوز التداعيات والبدء في إعادة البناء بدعم خارجي لا غنى عنه، في حين ستكون إيران بحاجة لإعادة حساباتها لتجنب الأسوأ في علاقاتها التجارية والمالية، وبالأخص صادراتها من النفط والغاز وتعاملاتها المالية المهددة بمزيد من العقوبات من الإدارة الأميركية القادمة.
وفي ظل هذه التغيرات المرتقبة ستحقق دول مجلس التعاون الخليجي المزيدَ من التقدم الاقتصادي، بفضل حسن إدارتها الاقتصادية والسياسية المتوازنة والمرنة مع الأطراف الإقليمية والدولية كافة، وبدعم من التوقعات الخاصة بمحافظة أسعار النفط على مستوياتها الحالية، حيث يتوقع أن تحقق دول المجلس معدلات نمو مرتفعة نسبياً تتراوح بين 3.5 و4.5% خلال العام الجديد، وهو واحد من أفضل معدلات النمو في العالم. وهذا إلى جانب الصين والهند اللتين ستحققان معدلات النمو نفسها تقريباً، حيث يعبر ذلك عن قدرة هذه الدول على التأقلم مع مختلف التطورات، وهي مسألة مهمة للاستقرار والتنمية.
*خبير ومستشار اقتصادي