بعد العشاء، وبعد الانتهاء من صلاة التراويح، كانت بيوت الجريد، تسرب أصوات القراء عبر الأزقة، وكان بعضهم يتميز بحنجرة دافئة، وصوت يمر عبر الأسماع كالنسيم، وعلى وقع هذه الأصوات، كانت القرية تسكن بطمأنينة، تحت ملاءة الليل الرمادية، وكان الصغار يحضرون هذه القراءات، ويجلسون في هدأة وسكون، وبعضهم كان يحفظ ما تيسر من آيات الله، فيرددون وراء المقرئ، وكان الرجل الأشيب، ينظر بإعجاب إلى هؤلاء البراعم، ويمسح بلحيته البيضاء مبتهلاً إلى الله أن ينعم عليهم بفضيلة الموهبة، وإرادة حفظ القرآن، ويمكنهم من التدبر بآياته الكريمة. لم تكن في ذلك الزمن من مؤسسات رسمية تعتني بتحفيظ القرآن، ولذا فكان الآباء هم الذين يتبوؤون هذا الدور، ويهتمون بمواظبة الصغار على حضور الجلسات القرآنية، وكان ذاك الرجل بسحنته الإيمانية، يوزع ابتساماته الحريرية، على الصغار والذين التفوا حوله، وطوقوه بدائرة تفيض بالحب، حتى أصبح الرجل يشكل بالنسبة لهم الأنا الأعلى الذي يستلهمون منه المواعظ، والحكم، والأفكار النيرة، وفوق كل ذلك، حكمة اللغة العربية، فكان الصغار ينطقون مخارج الألفاظ برزانة، تحرس لغتهم قوة القواعد اللغوية التي يستلهمونها من قراءة القرآن. 
والرجل ذو العينين الحادتين، الشاسعتين، كان بين الفينة والأخرى، يتوقف، ويتأمل الوجوه، ويبتسم، ثم يسأل عن كلمة، ومعناها، وعن جذرها اللغوي، وكان الصغار يتسابقون في رفع الأصابع، وكل واحد يأمل أن يوجه له السؤال ولما يقع في الخطأ، يزم شفتيه، وينكفئ، ولكنه لا ييأس، وإنما يبادر في المرات التالية ويحاول أن يثبت للمقرئ أنه كفؤ، وأنه ضليع في اللغة العربية، وكان المدرس، أي المقرئ، لا يكبح جماح الصغار، بل كان يحثهم على المنافسة، ويشجعهم على المباراة، ويدفعهم على خوض غمار التجربة، وكلما أخطأ أحدهم، ابتسم المقرئ، وقال له في المرة التالية سوف تنجح في قنص الإجابة الصحيحة، وكان الصغار على الرغم من إحساسهم بالغيرة من زملائهم، إلا أن أسلوب المقرئ، كان له الرونق الجميل في استدعاء مشاعر التفاؤل، ورفع المعنويات، والجلوس أمامه بثقة، وثبات، مما يجعل القدرة على التجاوب مع أسئلته، والتداخل معه، سلسة، ويشعر الصغار وكأنهم في جلسة تسلية، ولا يساورهم الشك في أن المقرئ يعيش في مستواهم العمري، وهذا ما كان له الأثر الكبير في إكسابهم الثقة بالنفس، والطمأنينة في مواجهة رجل يكبرهم بعقود من السنوات. 
وتمر الليلية الرمضانية، بسماحة وشفافية القرآن، وشخصية المقرئ الرصينة، والواعية بأهمية أن يكون المعلم صديقاً للمتلقي قبل كل شيء. وبعد كل وجبة قرائية، تتلوها وجبة رمضانية ساخنة يتقدمها طبق الهريس، وكوب اللبن، ممزوجاً مع هذا الطعام، أحاديث خارج إطار القراءات القرآنية، وتقترب كثيراً من القصص التراثية، حيث المقرئ كان يفيض بهذه القصص، ويشعر بالفخر وهو يتوسط فريقاً من الصغار، ويلقنهم من عِبر التاريخ ما يشد انتباههم، ويلقى إعجابهم بهذه القصص.