في البدء كانت علاقتي بمدرس الرياضيات ليست على ما يرام، كسائر الزملاء في المدرسة، فهذا الكائن الحسابي العبقري لا يرتاح للطلاب الذين يعيشون على حواف الأفكار الرياضية بل هو يعتني كثيراً في الأرقام إلى درجة، إنه في يوم من الأيام خرج بنظرية فلسفية أبهرت الطلاب عندما قال، الحياة برمتها رقم، والإنسان كذلك رقم.
وإنسان كهذا مجنون بالأرقام كيف السبيل إلى التواصل معه، وكيف يمكن بناء علاقة معه، على أسس المشاعر الإنسانية التي تربينا عليها، ونحن أبناء قرية نمت أظافر أبنائها على حسيس أشواق، ولهيب حرمان وفحيح أفاعٍ تتمشي تحت الجلد، كلما احترقت أوراق الشجر بفعل السعرات الحرارية المتجاوزة حدود المعقول، وذاك القرص الذهبي يستدير على الحرقات، مثل ما البراكين تلف لفيف جمراتها السائلة المحتدمة. ولكن رغم كل هذا التنافر بين ذلك العبقري الرياضي وطلابه، ألا أنه كان يحظى بتقدير الطلاب، وكان الرجل يفرض على الجميع هالته المهيمنة على كل من يلتقي فيه، وبخاصة الطلاب. 
في يوم فكرت في حيلة ربما أكسب من خلالها ود هذا الرجل، وربما تلين جوارحه تجاهي، واستريح من القلق اليومي وبخاصة عندما تحين لحظة المحاسبة على حل الواجبات.
قلت في نفسي في هذا الشهر الفضيل لماذا لا أطلب من الوالدة أن تعد طبق هريس، لعل وعسى يستهويه، ويجد عنده القبول، وبالفعل رحبت السيدة الوقور بالطلب، وأعدت له طبق العريس المرتب، وعلى صفحته تفوح رائحة الدهن البقري، وهناك في حي المدرسين، وهي المنطقة التي تبعد
عن منزلنا حوالي كيلو مترين، وقفت عند باب المنزل المقصود، وطرقت الباب، فإذا بالرجل يطل عليّ من فتحة الباب، بابتسامة ودودة، ولأول مرة أتشرف بهذه الابتسامة، ومددت يدي وتناول الطبق، وابتسامته تتمدد على محياه الأسمر ووجنتاه الممتلئتين وشعرت أن الرجل ليس كما كنت رسمت له صورة، بل إن شخصيته مغايرة في تلك اللحظة عن باقي الأيام التي شاهدته فيها، وربما لأنني أقف أمامه خارج نطاق اليوم المدرسي. 
كما أنه قدر مجيئي إلى مكان سكنه، وأقدم له وجبة ساخنة، من صنع يد ماهرة، وقد يتذوقها لأول مرة، أو ربما ذاقها من قبل ولكن ليس بالمرات العديدة.
شكرني الأستاذ، وشعرت أنني ألج في بحيرة صافية، فيها زعانف سمكية ترفرف على وجهي، وشعرت أنني أصعد سنام بعير طار بي نحو صحراء شاسعة، أشجارها مثمرة بالتين والزيتون، ولما وصلت إلى البيت وقت الأذان، صحت بنبرة صوت منشرحة، وقلت لأمي المدرس يسلم عليك، وقال لي أشكر الوالدة، وعلى وقع هذه الكلمات، أنشرح صدر أمي كسائر النساء، تسعدهن كلمات الشكر لأي عمل ينجزنه، وهذا أمر طبيعي، الله يحب من يشكره، فكيف بالبشر.
ومن ذلك اليوم الرمضاني، بدأت أتغير أنا، ولم انتظر من المدرس أن ينتظر، شعرت أنني بحاجة إلى معرفة شخصية هذا الرجل، على حقيقتها، وبالفعل، تغيرت أنا، وتغير المدرس، وعلى صور هذا التحول أصبحت أحب مادة الرياضيات، وصارت أيامي مع العلامات أحلى من العسل.
واكتشفت بعد سنوات، من العمر، أن المسألة في العلاقات البشرية تعتمد على قوة البصيرة في معرفة الشخص الذي أمامك، ومتى ما فهمته فلن تكون هناك عقبات في فك الألغاز. بعدها، شكرت رمضان، وشكرت أمي.