فتيات صغيرات في عمر الزهور، وصبية بسمات الموجة، تسعدهم ساعات المساء، وما قبل أذان المغرب، ففي هذه السويعات، حيث الشمس تستدير على الوجود بطبق أحمر يشق قماشة السماء بلونه الفاقع، النابع من النجم العظيم، وليس أجمل من أن ترى هؤلاء السنابل يسعون برفرفات النسائم بين الأزقة، حاملين معهم أطباق الهريس، ممزوجة بقمحة الحياة.
 وتوقفت الجميلة الصغيرة، وفتحت غطاء الطبق، وأخذت خلسة، لحسة من وجه الطبق، ثم أعادت الغطاء إلى مكانه، وكأنّ شيئاً لم يحدث، لكن الصغيرة لم تعلم بأن أنملها الصغير غاص قليلاً في قلب الطبق، وترك شارعاً ضيقاً تمر به عجلات السمن وتبرز أثر الجريمة البريئة، وعفوية الخفقة، عندما امتدت اليد اليمنى، لتنهل من معين الطبق، وتكسر حدة الجوع لدى الصغيرة، والتي لم تملك إرادة الصد لوشوشة النفس الأمارة، ولم تستطع أن تصمد أمام الإغراء والإثارة، ولذلك تمت العملية، ولكن لم يحالفها النجاح، لأن الأثر كان يفضح ما فعلته اليد الصغيرة، ولما كشفت الجارة الغطاء، وعاينت هدية جارتها، لم يسعفها صوتها، إلا أنه رن بين جدران المطبخ الذي كانت تود وضع طبق الهريس على أحد أرففه الخشبية، ولما اكتشفت الأثر صاحت: الله يسامحك (يا بنية) ألم تستطيعي الصبر لمدة دقائق ويؤذن المغرب، وتأكلين ما تريدينه من هريس.
 وفكرت في إفشاء السر عند جارتها، ولكنها خافت أن تتسبب بعقاب الفتاة، فتراجعت، وأذعنت لضميرها الذي أخبرها، عليكِ أن تتناسي هذه الحادثة، فقد تكون العواقب وخيمة، لأن جارتك قد تعاقب ابنتها، ولكنها أيضاً، قد تعتب عليك كونك ما أمسكت عن الصمت إزاء موضوع لا يستحق كل هذا الضجيج.
في اليوم التالي في زيارة لبيت جارتها لم تجد الطفلة، وكأنما الأخيرة شعرت بتأنيب ضمير لما حدث، فأرادت أن تفر بجلدها، وتغيب عن عيني الجارة، حتى لا تسمع كلاماً يثير حفيظة أمها، وتتلقى ضربات كلامية موجعة، كما أنها قد تفقد ثقة أمها بها.
عندما غادرت الجارة البيت، نظرت الطفلة إلى وجه أمها، حاولت قراءة الملامح، ولم تجد ما يثير الشك في أن شيئاً ما حدث بين أمها والجارة، ومع مرور الوقت تأكد للطفلة أن الجارة ربما لم تنتبه للأثر الذي خلّفه أصبع الطفلة، أو أنها قررت بألا تثير مثل هذه الزوبعة لموضوع بسيط، وقد يحدث في كل يوم. مرت الأيام، ولكن ظلّت تلك الحادثة عالقة في ذهن الطفلة، والتي أصبحت امرأة، تتذكرها في كل شهر من شهور رمضان، وتبتسم بمشاعر عميقة، تغوص في سنوات العمر، وتغرف منها الفرح، كما تجذب الحزن، ذاك الحزن الجميل، والذي تترقرق له القلوب، حيث يقول كل منّا: ألا ليت الشباب يعود يوماً - فأذكره بما فعل المشيب، وها هي الأيام تمر، والعمر يعبر طرقات وشعاباً، ورمضان مستديم في دورته.