في ذلك الزمن، لم تكن الثقافة بشكل عام قد أخذت زخمها وعنفوانها وريعانها؛ لضيق ذات اليد، ولكن روح الانتماء إلى حب الحياة كانت حية، نابضة، تنعم بحيوية الناس الطيبين والذين يولون الثقافة أهمية قصوى، ويضعونها بين الرمش والرمش، وينزلونها منزلة الماء والهواء.
في ذلك الزمن، كانت المجالس في رمضان عامرة بمن يحبون الليل، ونجومه ترقص على وقع القصص الخيالية، والحكايات التاريخية، وببهارات ساخنة من شعر الأقدمين، وبخاصة الشعر العربي الفصيح. وكان الصغار ينضوون في حلقات الذكر التي يحييها رجال من هذا الوطن، اعتنوا كثيراً باللغة، وامتازوا في تنميق الذاكرة بأجمل الحكايات التي تلامس وجدان الصغار والكبار. ولا شك أن ذاكرة «الأولين» هي صفحات «جوجل» الطافحة بالصور، والأحداث والمشاهد، وكانوا يمتهنون القصص، ويشعرون بالرفاهية الثقافية عندما يتوسطون مجلساً من المجالس، ويبدؤون في سرد ما تفيض به ذاكرتهم، فهذه المستديرة التي تقتعد سقف الجسم، كانت تضم عقلاً بشرياً، يحفظ مئات الأبيات من الشعر، وتوازيها بالأعداد القصص، وكان الصغار يجلسون في أطراف هذه المجالس.
لذلك كانت المجالس تبدو وكأنها تسكن تحت نغمات موسيقية كلاسيكية، ولا تسمع سوى رنين فناجين الخزف، أو أكواب الشاي، وبعض همس تتبعه ابتسامات، ثم يعقبها صمت. الليل الرمضاني مثل حبل المشيمة، معقود على صبر الجاثيات أحلام نهار، وواقع مساء رمادي إلى حد ما، وأحياناً يتحول إلى داكن عندما تمر ريح عصبية، لتخطف لسان الضوء، ويتحول المكان في الخيمة أو العريش، إلى ثكنة غامقة، لا يكاد المرء يرى أصابع يديه، وما أن يعود البعل الممجد حتى تنهض الجميلة، لتعد قهوتها الخاصة، وتنتظر إسداء العائد من زيارة الأصدقاء رأياً في قصة ما سمعها أو قصيدة شنفت أذنيه، بينما الجميلة تنصت بإمعان لما يتفوه به الرجل، وتستمر الحوارات الليلية لمدد قصيرة، ويبدأ الاستعداد لنومة خفيفة، تعقبها يقظة من أجل لمضات السحور. الوقت لا يمضي في ذلك الزمان سدى، والحياة كانت تتمشى على وقع الرنات التي يبعثها المسحراتي، وكل لحظة لها لونها ولها براعتها في تشكيل الحلم
الرمضاني لأن الذاكرة نقية من شوائب الآلة السحرية والتي تعتبر اليوم المساحة الأوسع التي تتحكم في ترتيب مشاعر الناس، وأشغال الدورة الدموية، والتي منها تنبع الدورة الحياتية، كل شيء كان يتسرب في الروح مثل اللبن البارد وقت الفطور، كلٌ كان يمس القلب بمهارة طبيعية من غير وساوس «الآيباد»، أو ضجيج «السوشيال ميديا»، كلٌ كان مثل أحلام الطير، وكلُ شيء مثل تنويعات الأم الرؤوم، وهي تزخرف مائدة الفطار، بيد كأنها ريشة بيكاسو.