هناك فرق بين أن ننظر إلى عملية نشر الكتب باعتبارها صناعة محضة، وبين نشر الكتاب والمعرفة كفعل وجودي، يعيد تشكيل فهمنا للعالم، ويحافظ على هويتنا وذاكرتنا الإبداعية.
خلال السنوات القليلة الماضية، شهدت الإمارات طفرة غير مسبوقة في حركة النشر، حيث خرجت إلى النور أسماء روائية جديدة، وبرزت تجارب أدبية ونقدية وفكرية طموحة، وتمنى كثيرون أن يرتقي الكتاب الإماراتي ليحتل مركز الصدارة في الرواية والشعر وبقية حقول المعرفة. ومع هذا الزخم، تزايدت أعداد دور النشر المحلية، التي بدأت تتلمّس طريقها نحو الاحتراف، أيضاً جاءت دور النشر العربية والأجنبية لتفتح فروعاً لها في المناطق الحرة في أبوظبي ودبي والشارقة والفجيرة وبقية المدن، بما رفع من روح المنافسة في هذا الفضاء الشاسع.
وبفضل الجهود الكبيرة للشيخة بدور القاسمي على المستوى المحلي والعالمي، اتجهت الشارقة لتصبح عاصمة عالمية للنشر. كذلك قامت وزارة الثقافة بطرح مبادرات لدعم مشاريع النشر للمؤلفين، وخصّصت هيئة دبي للثقافة منحاً مالية تخدم هذا المجال أيضاً. صرنا بالفعل نلمس ارتقاء صناعة النشر وانفتاح أفقها على الكثير من الطموحات، وبدأت الإصدارات الجديدة تجد طريقها تدريجياً إلى المكتبات، لكن وسط هذا الفيض من الإنتاج، لا تزال هناك حلقة مفقودة في هذه الصناعة، وكأنه بعد أن يُنشر، يُترك معلقاً في منتصف الطريق، بلا جسور حقيقية توصله إلى ضفاف التأثير العميق.
إذا كان النشر هو ولادة النص على الورق، فإن (التسويق الإبداعي) هو ضمان بقائه. في عالمنا العربي يُعامل الكتاب غالباً كمنتج مكتمل بمجرد صدوره، وكأن عملية الولادة وحدها كافية ليعيش الكتاب في هذا العالم. بينما في الغرب، لا يُترك الكتاب لمصيره بعد طباعته، بل يُقاد بعناية عبر رحلة تسويق إبداعية مدروسة، تشمل استراتيجيات ترويجية تُحوّله إلى حدث ثقافي مستمر، حيث يتولى الناشر بنفسه مسؤولية ترويج الكتاب باعتباره حالة معرفية تستحق التوقف عندها. إذ لا يمكن لأي صناعة أن تكتمل إذا تُرك أهم أركانها، وهو الوصول إلى الجمهور.
الناشر الحقيقي هو صانع معرفة أيضاً، ولتحقيق ذاته، عليه أن يتكامل في مهنته بامتلاك محركات لتسويق إنتاجه المعرفي. وفي الإمارات، نحن على أعتاب لحظة فارقة يمكن أن نؤسس فيها لصناعة نشر حقيقية إذا ما دعمنا جميع مراحل خطوط الإنتاج لتشمل جذب المحتوى ثم النشر المحترف ثم التسويق الإبداعي المستمر، وأخيراً الوصول إلى أكبر عدد من القراء.