في تلك الليلة، أمضت الفتاة الغر، الساعات في مذاكرة مادة الرياضيات، وهذه المادة دائماً ما تشكل لها عقبة في العبور، رغم أنها تمتاز على زميلاتها بالتفوق إلى حد ما ولكنها لا تسعد كثيراً بالدرجات التي تحصدها؛ ولذلك شعرت في ليلة الصيام أنها يجب أن تحرق الساعات في المذاكرة، لعل وعسى أن تستجيب لها الأرقام الحسابية، والمعادلات لتظفر بالمستوى الذي ترنو إليه وتتمناه.
قبل الفجر بثلاث ساعات، أقفلت صفحات الكتاب، ورتبت الدفاتر والأقلام والأدوات الهندسية، وذهبت إلى الفراش بجسد واهن، وعينين مسغبتين، وجفنين ذابلين، ورأس شعرت بأنه مثل بالونة يتصاعد فيها ثاني أكسيد الكربون، ويخفق، وخلال برهة، لم تعلم الفتاة ماذا يحدث ما حولها، وذهبت في لجة النوم العميق، ولم تصح إلا فجأة فقفزت مثل أرنبة مذعورة، وذهبت إلى الثلاجة، وتناولت الزجاجة الشفافة والتهمت رشفة، ثم رشفة، وصدمها صوت الأذان، وهو يخترق مسامعها عبر صدى الجدران المتداعية حولها.
أعادت الفتاة الزجاجة، ووقفت هامدة، مثل تمثال قديم ثم تحركت، والتفتت حولها، وسمعت صوت خشخشة، ثم تلتها نحنحة، فأيقنت أنه والدها يستعد لصلاة الفجر. وقعت الفتاة تحت سطوة الحيرة، وتأنيب الضمير، والإحساس بالذنب، ولكنها استلت من حقيبة الذاكرة، معلومة قديمة سمعتها من الوالد، ولكنها لم تتأكد من ثباتها، ولكنها في هذه اللحظات تبحث بقوة عن خيط رفيع يرفع عنها الألم النفسي، ويمنحها أي مبرر، أو ذريعة تحميها من عذابات النفس.
فكرت في أن تخرج، وتقابل الوالد، وتسأله عن هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبته، لعله يستطيع أن يبرر خطأها، ولكنها ترددت، وتوارت داخل غرفة المطبخ، حتى تتأكد من أن الرجل الأشيب قد غادر البيت إلى المسجد. في هذا المكان خلف الباب، شعرت الفتاة بانسحاق شخصيتها تحت سنابك الشعور بالذنب، وأحست بأنها ارتكبت جريمة نكراء، وكلما حاولت أن تتخلص من هذا الشعور، بالتقاط الأعذار، كلما قفز ضميرها المكلف بحراسة سلوكها، فتعود ثانية، وتخضع لوخز إبر هذا الضمير الصارم. في الصباح لم تحاول أن تستعيد صورة الليلة الماضية، خشية أن تؤثر على أدائها في الامتحان، ولكنها عندما عادت إلى البيت وهي مفعمة بالفرح نتيجة لقدرتها الفائقة على حل المسائل الرياضية التي كانت تفزع منها، وفي البيت، وقفت الفتاة أمام أمها ورغم فرحتها بالامتحان إلا أنها أوشكت أن تبكي بين يدي أمها فتلقفت الأخرى ابنتها، وضمتها إلى صدرها وقالت بلهفة لا تقلقي يا حبيبتي في الامتحان القادم سوف تعوضين النتيجة، فترفع الفتاة رأسها وتقول: لا يا أمي لست حزينة على أدائي بالامتحان فقد أجبت عن كل الأسئلة بنجاح، ولكني حزينة على شيء آخر. بهتت الأم وقالت، إذن ما الذي يبكيك؟ قالت الفتاة، البارحة صحوت، وكنت عطشانة، وشربت ماء، ولكني اكتشفت أنني ملأت بطني بعد أذان الفجر، ولا أدري كيف أمحو هذا الذنب.
ربتت الأم على كتف ابنتها، وقالت بثقة، لا تخافي يا ابنتي، الله غفور رحيم، وبإمكانك صوم هذا اليوم في الأيام القادمة بعد رمضان، فأنت لم تتعمدي، وإنما هو سهو، إنه خطأ في حساب الوقت. وبينما الأم تشرح لابنتها، كانت تشعر بالفرح، والفخر، كون ابنتها تمتلك هكذا ضمير حي، وتشعر بأهمية أن يلتزم الإنسان بتقاليد دينه تحت أي ظرف من الظروف. شكرت الأم ابنتها، كما قبلت الفتاة رأس أمها، ووعدت الفتاة أمها بألا تنام دون السحور، وأخذ قسط من الماء قبل النوم.