في ساعة حمى وطيسها، إذ صحا الصغير ليلاً، ولم يجد أمه، نهض من الفراش وراح يجوس يمنة ويسرة لعله يجد لها أثراً، ولكن المحاولات باءت بالفشل، والخوف بدأ ينشب أظفاره في صدره الصغير، وخيال الطفولة اشتعلت نيرانه، والصور الخيالية تراكمت على رأس الصغير، وكلما سمع مواءً ارتجفت فرائصه، أو سمع نباحاً، ولم يجد بداً من أن يهرع خارج الخيمة، والوقوف عند عتبة الباب، وإثراء الفضاء بصوت كأنه صفير العاصفة. ولكن لا جدوى فالأم لم تبزغ بعد، والظلام ينعكس على الوجود مثل ظهر سلحفاة عملاقة، خرجت من مغارة، والنجوم ترسل بصيصاً فاشلاً لا يمنع حلول الظلام، والوقت يزحف على صدر الصغير مثل جرافة خربة. مضى أكثر من ساعة، ولا وميض يقشع غلالة الخوف من قلب الصغير، واقتنع الصغير بعد حين من الانتظار بأن أمه حدث لها طارئ، أو ربما غادرت البيت ولن تعود، وكل الأطفال يعتقدون أن غياب الأم يعني غياب عاطفة الأمومة، وفكر الطفل الصغير بأن أمه لم تعد تحبه، وأنها لن تعود إلى البيت.
بعد زمن من الإرهاصات التي أنهكت قلب الطفل، بانت «سعاد» وهرولت مخضوضة باتجاه طفلها، وتلقفته، وضمته إلى صدرها، وطوته بين ساعديها، بينما هو غرق في بكاء تفتت له قلب أمه، وارتفع منسوب البكاء لما شعر الصغير بأنه فعلاً في حضن أمه، وعندما شعر أنه في داخل الخيمة، وعلى الفراش، وأمه من حوله، بدأ يلتقط بعض الأنفاس، وعيناه معلقتان في وجه أمه، معاتباً. ولم تلبث الأنثى الحنون أن يسكن روعها، فطوقت ابنها أكثر وقالت معتذرة في لهجة لاهثة سامحني حبيب عمري، كنت في بيت جارتنا (..) نتسحر، وما تصورت أنك ستصحو في هذه الدقائق. ولكن الصغير ظل ساهماً واجماً، ويتأمل وجه أمه، وملامح العتب تنثر علامات الاستفهام من عينية الدامعتين، وظل متشبثاً بأمه، وكأنه يحس بأنها من الممكن أن تغادر الخيمة إلى الأبد وتتركه وحيداً.
جلست الأم لصيقة بابنها، وهي تستعيد القصص التي دارت في الجلسة النسائية، وهي عادة رمضانية يتم عقدها بعد صلاة التراويح من كل يوم، ولكنها لا تدري وكأنما نداء من السماء هو الذي وخزها، لتثب فجأة وتترك المجلس النسائي، وتهرع إلى البيت وتجد ابنها في حالة يرثى لها.
فكرت المرأة أنها مهما حدث فلن تستغني عن هذه العادة الحميدة، وأن ليالي رمضان تجملها تلك الانضواءات الدافئة، وقررت أنها في اليوم التالي لن تترك ابنها، وسوف تصحبه معها، إلى أن يعود الأب الغائب، في سفر قريب.
حاولت السيدة أن تغري ابنها بقرارها الطارئ الذي أصدرته، ولكنه أبى، وظل شاخص البصر، متعلقاً في اللاشيء، وهي كلما قبلت جبينه، كلما أحست بأنفاسه المترددة، تهز أضلعه الرهيفة، فتزداد تأنيباً وتوبيخاً لنفسها، وتحاول تخفيف وطء هذا الإحساس. ولكنها عندما تتذكر كيف شعر ابنها في غيابها، تزداد توتراً، وتتضاعف وخزات الضمير. مالت المرأة ناحية ابنها وحاولت تطويقه بذراعها، ولكنه بدأ يتذمر، وكأنه يشعر بشيء ما سيحدث، وربما تعود أمه ثانية وتتركه وحيداً. وهكذا استمر الصغير حتى استسلم للنوم، بعد معاناة من طرف أمه التي كانت تود أن تراه وقد أغمض عينيه، لتستريح من وخزات الضمير. ولما تأكد لها أنه قد ذهب في نوم عميق، نهضت، وتركت الفنار المعلق في سقف الخيمة يحرس ابنها الصغير، بينما هي ذهبت في إعداد سحور الأسرة، وفي انتظار عودة البعل من سفرته إلى أقاربه في دبي.