في رمضان وبعد الإفطار مباشرة، تنتشر قوافل الصغار، وتبسط أجنحة الضجيج اللذيذ بين الأزقة، وأغنيات عذبة تتردد في حواري القرى، والكبار رغم انزعاجهم من بعض الفوضى إلا أنهم عندما يمرون عبر تلك الحلقات الحوارية التي تدور بين الصغار، يشعرون بالفرح، ويستدعون زمانهم، وأيامهم، وشغبهم، وسهرهم على صور تثلج صدورهم وتعمر مشاعرهم، وتمنحهم باقة زاهية من لياليهم التي يرونها مرت كالبرق، كما نرى نحن اليوم أن زماننا خطفته أيد خفية، ومر بسرعة البرق.
كانت الأفكار تذهب في هذا الشهر، بأن أم الدويس التي تخطف الصغار، أصبحت مغلولة اليدين، ولا حول لها ولا قوة، ولا يمكنها ممارسة بطشها، وطغيانها على أبناء البشر. بهذا التصور، وبهذه الصورة المزدهرة خيالاً، يخرج الأطفال ليلاً إلى الأزقة، وخارج البيوت، باحثين عن متنفس، يشرح صدورهم الصغيرة، ويملأ قلوبهم بالفرح،حيث يسرحون ويمرحون على الرمال الباردة، المدهونة بالندى، والمزخرفة ببقايا المحال، والحصى،وكانت الأقدام الحافية تعاني الجروح، وكانت الأجساد تنز بالملح المغسول برائحة الرمل، ومخلفات أزمنة غابرة. ولكن هذه الأقدام النازفة بالعرق والدم، كانت تعبر طيوف الرمال، بجسارة، ومع صياح الديكة، كان الحراك الطفولي يملأ المكان، القرية الغافية على خاصرة البحر، تمارس رياضة اليوغا، بامتياز، والنساء في مثل هذه الأوقات يعبقن الأزقة برائحة البخور، وبصحبة كل واحدة طبق مما جادت به أيدي العارفات بسنن الشهر الكريم.
في أحد الأيام، ركل أحد الصبية كرة القدم، فطارت في السماء ثم حطت في بيت مهجور، واختلف الصغار على مسؤولية من تقع استعادة الكرة، وكل رمى الكرة في ملعب الآخر، حتى تبرع أحدهم وقال بشجاعة أنا سوف أجلب الكرة. ساد صمت رهيب، ثم التفت الصبي إلى زملائه، ثم اعتلى الجدار المتداعي والعيون تلاحقه، والقلوب تدق أجراس الخطر، لأن الجميع على الرغم من أنهم عرفوا أن أم الدويس في السجن، ولكنهم أمام الأمر الواقع بدأت الثوابت تنهار، والقناعات تتهاوى، وانتظر الجميع عودة الصبي، إلا أنه لم يبن له أثر، حتى تجمع الجيران، صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً، وبعد فترة وجيزة، قفز أحد الرجال، وتسلق الجدار، وبعد برهة عاد وفي صحبته الصبي، فاستغرب الجميع في البداية، ولكن لم يترك الرجل الذهول يأكل من قلوب البشر المصطفين في المكان، ولما اقترب الجميع من الصبي، تأكد لهم أن أم الدويس لم تزل محبوسة، وأن ما أصاب الصبي هو جرح غائر، إثر اصطدامه بصخرة كبيرة.
تم إسعاف الصبي، وتقدم الجميع لشكر الرجل الذي أنقذ حياته، وارتفع الصياح بهجة وفرحة بالعودة الميمونة للصبي، رغم إصابته البليغة، إلا أن العثور عليه كان فوزاً ودحضاً للأفكار التي خالطت رؤوسهم، وخوفهم من أم الدويس.