خريطة الثقافة ليست ورقة تنظم بلدان رسمت على الورق، بل هي وعي يتسرب في أذهاننا كأنه الحياة في العروق، وكأنه الجدول في ضمير الأشجار. فرسالة الفن كما يتحدث ميلان كونديرا «حمايتنا من أنفسنا». ويشير الفيلسوف الفرنسي أدغار موران إلى أن «الفن هو أسلم وسيلة للهروب من العالم، كما أنه أفضل طريقة للالتحام به».
نهرب من العالم كي نلتحق بعربته، وكي نغير من لون السحابة السوداء التي تغطي السماء، وكي نعيد صياغة الوجه الكئيب للعالم، بحيث يصبح قابلاً للحياة. فالثقافة ليست طائرة ورقية عابرة، بل هي غيمة المطر التي تغسل محيا الحياة من غبار العبثية، ومن سعار الرمال المتحركة.
فبحضور الثقافة يلتئم شأن الأشجار البشرية، وتتعانق أغصانها، وتنضج ثمارها، وتتوقف أوراقها عن السقوط، بحضور الثقافة تبدو الحياة موجة بيضاء ناصعة من غير سوء، تبدو الحياة محيطاً يحمل مشاعرنا إلى الآخر، مثل رسائل الغواصين إلى المحارات في الأعماق، مثل أغنيات الصيف عندما تدلي النخلة بعناقيدها، كي يرقص الطير، وتطرب نفوس العشاق.
الثقافة مملكة السعادة عندما تذهب إلى الآخر من دون خدوش، ولا رتوش شائهة، ولا كوابيس مبيتة، ولا أفكار تبدو مثل طيور الأبابيل.
الثقافة منذ البدء كانت مثل الأحلام بين رموش البراءة، تكحل العيون بإثمد الجمال، وتستعيد للإنسان ابتسامته الضائعة، تستعيد للعالم أناشيد الصباح وتكون الشمس آلة العزف، وأهدابها أوتاراً ذهبية ترسم صورة العالم كما ينبغي، وتحيي قصة النشوء الأول، عندما كان الإنسان من دون رثاثة أفكار يخيب ظنه في الوصول إلى الآخر، وتحقق الهدف الأسمى، ألا وهو التضامن بصورته الطبيعية، والحب بفطرته قبل التشويه، وقبل التسويف، وقبل وقوع الانهيارات الأرضية تحت أقدام عشاق خابت مسائلهم قبل أن يلحقوا بركب الحضارة، لأنهم نسوا الدرس الصباحي، وتراخوا في حل واجبات الطبيعة.
الثقافة كتاب مفتوح على المدى، وهي قصيدة أبياتها من نبضات القلوب الوفية، والوزن هو ذلك البحر العميق الذي تنتمي إليه الأبجدية الشعرية.
اليوم نقرأ الخريطة العالمية، فتصدمنا هذه التصدعات في جدران العالم، وهذه الحشرجات الخارجة من صدور تبدو كأنها فوهات تنانير معدنية، تصدمنا الأحلام البشرية التي أصبحت مثل عناكب ضالة، تتسلق جذوع التاريخ بمخالب كأنها السكاكين، والأرض، أمنا التي أنجبتنا، أصبحت في مرحلة الكهولة، لذا يستدعي الأمر، وللضرورة بأن تتمكن الثقافة الحقيقية، أن تزيح عن كاهل العالم كل هذا المناخ الخريفي، وتستعيد ربيع العالم، هاربة به من كراهية العالم المرعبة.
فثقافة الكراهية هي الأشد مضاضة، والأقسى على العالم من كل ما يحدث في الحياة بين الناس؛ لأن الثقافة هي الجذر الذي تخرج منه الأغصان، ومنها تنبت الثمار.
فكم نحن بحاجة إلى ثقافة عالمية متحررة من الضغينة، ومن الأحزان التاريخية البغيضة.