لقد تطورت الشحاذة، شأنها شأن كثير من المهن المعترف وغير المعترف بها، حتى دخلت ضمن سياق الرقمنة والعصرنة، وصارت متماشية مع مستجدات الحياة الجديدة، فقد اختفى من المدن الشحاذ القديم الذي يعصب عينه، ويكسر يده، ويمشي على عكاز، ما عادت المدينة تقبله بهيئته القديمة في يومها الحديث، وربما أعادته إلى قريته النائية، حيث ملعبه الأول، مع تلك الشحّاذة ذات الثياب الممزقة، والتي تسرح بطفلها الرضيع النائم على صدرها، ولكنها رحبت بمن يدعى رجل أعمال أو لص مشاريع وهمية، أو متصيدة الزبائن في الفنادق الفخمة بحجة قراءة الطالع، وفك السحر، وتقديم خدمات كثيرة للسياح في غربتهم المدللة.
لكن موضوعي اليوم مختلف قليلاً، وهو عن الشحاذة بنُبل أو الشحاذة بقفازات مخملية أو بشكل أدق شحاذة من أجل أشياء جميلة في الحياة، ولا يريدون غيرها، لا يكثرون ولا ينقصون، هي شحاذة من أجل تحقيق السعادة، وقد دق عليّ الموضوع حين تذكرت مرة شخصاً في مطار «تشارلز دو غول» الباريسي، حيث استوقفني من بين خلق الله، طالباً وراجياً أن أعطيه مئة يورو ليشتري عطراً لزوجته، لقد أخرسني السؤال، وبين ضحكة صامتة، وابتسامة صادقة، صفنت قليلاً قبل أن أجيبه، ناظراً لهندامه ذي الماركة الإيطالية، والذي بالتأكيد أغلى من ثيابي، بدا لي حينها بذاك الحذاء الصيفي الكتاني مثل ممثل إيطالي في صيف كابري، وبين متردد، مقبل ومحجم، أدخلت يدي في جيبي مخرجاً محفظتي، وأنا مستلب الإرادة، وثَمّ فرح داخلي بالسعادة، وقلت له جاسّاً نبض الطمع في نفسه: قد تكون زجاجة العطر أغلى من ذلك! فقال دون تردد: «لا.. بضبطها مش أكتر من هيك»! 
أعطيته وسعادتي تتبع سعادته، وكان نهاري ذاك اليوم بالتأكيد مختلفاً، فقد وضعني في دوامة من الأسئلة المبهجة، والتصورات الكثيرة، كيف هي تلك «المدام» التي تستحق مد اليد بتعفف؟ ليضفي شيئاً من البهجة حين لقائها، ولا تدري عن ذلك الشخص المحب للأسئلة المباغتة، والفضول الإنساني، والذي يمكن أن يكون نسي يومها أن يشتري عطراً لزوجته، لأن ما في جيبه بالكاد أعطاه لشخصين لا يعرفهما، ولكنهما سيفرحان ربما كثيراً بدلاً عنه.
من الظرفاء بين الشحاذين الذين لا يمكن لك أن تنساهم طوال عمرك، وتجوالك في المدن، عجوز أعمى، وتلطفاً بحاله ندعوه، وأمثاله، في عربيتنا الجميلة والمهذبة؛ بصيراً! وهو من جمال الأضداد فيها، لكن هذا العجوز الأعمى ذا البصيرة النافذة، كتب على كرتونة ورقية وضعها أمامه: «ساعدوني.. لأرى الربيع هذا العام»! 
وآخر شحاذ مثقف بطريقة استثنائية، فرش كتبه القديمة على الرصيف للبيع بسعر زهيد، وتركها منزوياً في الحانة مع أصدقاء يحبون الثرثرة والحياة، وكتب لافتة أمام كتبه القديمة: «القراء لا يسرقون.. واللصوص لا يقرؤون»!