كانت المعضلة الأولى في بدايات السفر في الصغر، زاد وزوادة السفر، خاصة وقد كانت لدينا تلك النزعة التدينية التي كانت سائدة في أواخر السبعينيات والثمانينيات، وما توارثناه من نصوص كانت جازمة حينها وفق وعينا بالنسبة للمأكل والمشرب، والتعمق في الإرث العربي والإسلامي القديم كتنشئة أولى، كانت المعضلة الأولى لنا، كيف يمكن أن نتدبر الأكل في تلك الأماكن الجديدة، خاصة وأيامها، أيام فقر في المطبخ عندنا، ولم نتعرف على الأكلات العربية الأخرى أو الأجنبية الوافدة، يعني الواحد كان أقصى شيء جديد تذوقه أيامها «برغر ويمبي» في بداية شارع حمدان أو «شاورما أبو علي» في منتصف ذاك الشارع أو تخبيصات من أكل الهنود المقلية بجانب سينما المارية أو الفردوس أو الخضراء أو في مطاعم أشبه ما تكون مطاعم عمال كادحين على طريق أبوظبي العين، وحدهم الزملاء الذين كانوا في المدارس العسكرية تذوقوا أكل «البندره أو كانتين الجندي»، لذا كان يتقمصنا نوع من الخوف التاريخي في سفراتنا الأولى من أن نهلك جوعاً، خاصة ومعظمنا «يجَزّ من أكل الغربتيه»، ويخاف بأثر رجعي من تلك الروايات الشعبية التي كنا نسمعها أن الآخر يتفل في طعام المسلم أو يكون غير مسميّ عليه، فيأكل الشيطان معنا، وغيرها من حكايات قديمة سمعناها في الصغر، لذا كنا نتَحَيْدّ بـ «مقفلات» سح وحلوى وخبز رقاق يابس يلينه اللبن والروب، وغرشة عسل، ونتخير علب أجبان بعينها نعرفها، مثل «كرافت وراماك» وهي جبنة ألمانية علبتها صفراء، الآن ما عادت موجودة، كل ذلك خوف القطيعة، والاطمئنان على نقاء السريرة، والبعد عن المُحَرم، وكل ما يريب، واقتصاد في المصاريف، وأيامها لا أحد يسأل ماذا تحمل في حقيبة السفر من زاد وتمر، ولو كان «بيب مالح أو عوال يابس» فقد أدخلناه أكثر من مرة إلى مطار العاصمة الأمريكية قبل الحادي عشر من سبتمبر بعام!
بعضنا حين كبر تمرد على كل تلك الأشياء، وظل يجرب ما كان حارماً نفسه منه، بعضنا ظل شبه الخوف يسايره، وكل خوفه أن يغشه أحد، ويلطم لحم خنزير بشراهة، كاشتهاء التفاحة المحرمة، والبعض الآخر ما زال ضميره يؤنبه حين يرى قطعة «ستيك» دمها على خدها أو طبق مشوي بذلك الشعيل العنبي، ويظل يسأل، ويتأكد، ويطلب منا أن نحلف برؤوس أمهاتنا أننا لم نغشّه.
الآن.. ولأن الإنسان أسير ما تعود، حين يدخل أحدنا مدينة في أقصى الشمال الأوروبي البارد أو مدينة في أطراف الصين، وتتراءى له بعض الإشارات التي تبدو مطمئنة للنفس القلقة على الدوام، مثل إشارة مطعم أو مقهى يعرفها، تهدأ النفس المتحفزة، فجأة يستسلم كأي صبي خصوصاً عندما يدخل مدناً لا يجيد لغتها، ولا يستساغ أكلها، لذا إشارة المطاعم السريعة بألوانها الحمراء والبيضاء أو الزرقاء أو الصفراء تجعله يهدأ قليلاً، ويتوقف اضطراب البطن، وحركة الأمعاء الغليظة، ويطمع ويتمنى لو يجد بالقرب منها مقهى يقدم القهوة الأميركية بشعار البنت الفاردة شعرها، ومزينة بالتاج، هكذا يستريح، ويضمن قهوة الصباح التي يشربها على مهل وبكسل، ويطيب له عدم التشتت والحيرة أو سؤال الناس أو المخاطرة بأكلة دانماركية أو ألمانية لا يعرف من أين سُلخت، وكيف قُلبت، وعلى أي نار طُبخت؟ وغداً نكمل.