على جناح الطير تلهو الريح، وبين دفات كتاب، تخربش الرموش، وعند كل فاصلة تترنم الضاد منتشية بعرسها، وفرح العشاق وهم يختالون بين الأزقة الصغيرة، كأنهم النوارس تغني للحياة، وترفع النشيد عالياً، والعالم يتشكل من جديد، العالم ثمرة تخرج من ثغر الشجرة، وتناغم النسائم، وأضواء كأنها نجوم نشوانه من أثر اللفيف، والعيون التي في طرفها حور، ووجنات كصفحات البحر، برونق العشاق، وسماحة الأفئدة المؤدلجة بالحب تلك الأخلاق التاريخية، تؤم محاريب وجدان بشري، وتحتفي بأيام لها عطر الكتاب، لها بوح الفراشات، لها سر الوردة، لها نمارق من رموش، تحرك وضح النهار، وسويداء الليل، وآخرون يرتلون قصائدهم عند منصات الغزل المهيب، آخرون يرتبون مشاعر عشاق السمع والبصر بأبيات كأنها خيوط الحرير.
هكذا نشعر عندما نحضر معرضاً للكتاب، وهكذا تداهمنا القشعريرة ونحن نلج بحيرات، من صفحات ما يكتبون، وما يسبكون، وما يحبكون، وما يحدبون، وما ينسجون، كل ذلك يحدث، ويحدث لأنه يحمل في الطيات رسالة وجد لوجود بشري كم هو بحاجة إلى الكتاب كي يمسح عن كاهل الزمن رثاثة الغبن، وسماجة الكراهية، فهذا الكتاب، هذا الخضاب، هذا السبب، وكل الأسباب في انقشاع الغمة عن صدور، واندحار النقمة عن نحور، هو هذا السر في الوجود وهو حلم الأبدية، وأبجدية التكوين، لخلائق تخلقوا على النشوء والارتقاء بين كلمة وفاصلة، وفصول تبعث على التفاؤل، وترسم صورة المستقبل من غير خدوش، ولا رتوش، ولا نعوش تثير في ضمير الكون الفزع، والجزع، وتحرك مكامن الروح حيث لا مكمن للروح إلا بما تعرش به السماء الصافية، النقية من غبار ومن سعار.
في معارض الكتب، تبدو الحياة مثل وردة تلون وريقاتها من نسيم ووجد جدول، وفي معارض الكتب، تتخلق أجنة الحلم، وتنبعث الرسل، وتفتح الرسالات صفحاتها، لكلمة «اقرأ» وها أنت تقرأ، وتحك صدغ الكلمات، منتمياً إلى كهان شرفاء، وجدوا في الكلمات ملاذاً، لعرفانية كريمة، تنظم دورات الدماء في غضون العقول التي دوختها حروب داحس والغبراء، وأدارت أرجوحة الزمان نحو غافية على موجة عارمة.
تمنحنا معارض الكتب، فسحة للتأمل، وفرصة للخروج من دروس لها طعم الرمل، ومذاق أرغفة بائتة، تعلمنا معارض الكتب، كيف نخيط قمصان الحياة من دون أن نترك ثقوباً في قماشتها، ومن دون أن نرقع حياتنا، بالدمع المدرار.
في معارض الكتب تبدو الأغنيات سماوية إلى حد القداسة، وتبدو العيون نجمات تشكل لون النجوم، وتنقش على مقل العشاق، شغف الانتماء إلى الحياة، ولهفة التبعثر في تلافيف خير جليس، وفي حضرة الكتاب، تتلاشى اللعثمة، وتنفتح جداول الماء على اللسان، والأشجان وتشيع الغيمة قطرها، كي ترتوي الأعشاب في قلوب المدنفين، والرابضين عند زاوية في مخدع الكلمات.
في معارض الكتاب، اللقاءات مع الأحبة، عناق الأغصان، واحتمالات اندماج النجوم، وحبات الرمل، حيث تصير الكلمات مثل عناقيد على عنق ونحر، وتصير الشفاه نخوة اللانهائي، عند ثغر وسبر، وسر وخبر.