هو ذاك الشاعر الذي يبكي حين ينشد قصيدته، يتعامد مع حروفها، ويكاد أن يتسامى، بل يزيد في وجده وعشقه حتى يكاد أن يتلاشى، مثل نسمة هواء تمر على العابرين من عشاق الهوى، تسكنه المعاني كعطر قديم قطرته كاهنات المعابد عبر سنوات من التبتل ونشيد الصوم الدهري، شاعر له تاج من تاء التأنيث، وله هاء الغائب يعود لها، حين تنثال حروفه مثل نسيج صوفي وسمه الخيام الذي لا نعرف غير سكره وصرف شربه، وهو أعلى من المعالي، وهو إن قال: آه! كان الليل منشداً، وكانت الأغاني، يستقيم حرفاً ولغة ونغماً وعطراً، ليت فدى له كل الغواني.
في حضرته.. وحضرة شعره، ونسيج غزله، تمني النفس ليتها كانت مثل ذاك المريد الذي يتبع ظل شيخه وعكازته، وصدى آيات الحمد، وألم نشرح، والبسملة وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، وسر سبحانيته وتطوافه، يدق أبواب البيوت لا يحمل إلا الخير، وعطراً من المسك في يده، مذكراً ملتقيه؛ إن من البيان لسحراً، وإن أول البدء كانت الكلمة، وإن الحروف هي خيوط من نور تضيء الروح، وتجعل النفس ساكنة مطمئنة، الحروف قبلة الإيمان وبصيرة المعارف، وسجدة الشكر التي تدوم، لأنك عرفت الحق، وأدركت معاني الوجود.
في مجد الخلود، وتعالي المعالي، لا شرح يتسع له الصدر، ولا شيء تفيه الأمالي، سابحون بحمد الكلمات، وضوع عطر الشِعر، الريح إن اشتهت أن تزاغي صفحة الخد وخصال الشَعر، العيون المكتحلات بالسواد والستر، كيف يمكن أن يخبئ لك طيف شاعر كل تلك الأمنيات، وشهقة الفرح باللقيا، وما تجلب المسرات؟ السر في الكلمة، وما نفث فيها من أسحار هاروت، وبيان ماروت عبر متاهات المكان، وأسرار الزمان، وما ظل مزروعاً في الصدور من معلقات وسموط طوال ومذهبات، دفنت فيها كسر من أسرار المكنونات، وبصائر المعرفة، ومغاليق القصائد المُحييات المُميتات.
وحده ذاك الشاعر القابل للكسر من يستحق الورد الأحمر في وقته، وحده من يستحقه في عيده وموعده، يصيح كي يلقي عليك ثقل الرحى؛ أنا أتعدد في المرايا لكي لا أكون وحدي!
وأنت وظلك تتبادلان الطرقات والأدوار ساعة الانتشاء بطعم القصائد، والانثيالات الشعرية، لا تعرف من ترك الآخر، ظلك الهارب نحو الأمام بلا أقدام، أم أنت المتخفي في الظلمة الممطرة فوق الطرقات الحجرية.
شاعر أخاف عليه من الكسر، ومن رجفة آيات العصر، ومن انتظار الصبر، ومن تلك الأمانة الشعرية القاسية مثل الحجر على الصدر، ومن تلك الرقة التي تعاند الكسر، ولا تقبل الجبر!