مخيفٌ حقاً، أن تصرخ وترى صوتك يعود إليك خالياً من أي وعدٍ أو إجابة. وكأنك هنا تحدّق في ورقةٍ جوفاء، مفتوحة على فراغك. هذه الكلمات التي ترددها في سرّك، هذا النداء الذي تظنّه يصل إلى مسامع الكون، هو في الحقيقة ليس صوتك. عليك أن تعرف حقاً أن الأقنعة التي لبستها منذ الطفولة وجرفتك في غموضها، لها أصواتٌ أيضاً. وهي نفسها الأصوات المتضادة التي تسمعها اليوم في عقلك، ولا تعرف في الحقيقة صوت مَن تكون.
قل للذين أوهموك بأنك حرٌّ، إنّ الفكرة هي قيدٌ أيضاً. وإنّ الخروج من سجن الأفكار هو الانعتاق الحقيقي للروح. كل حريةٍ تُعلَّق على حبل الأوهام ليست إلا عبودية جديدة. حطم القيود في عقلك، وستجد أن السماء بلا حدود، وأن العالم أوسع من كل فكرةٍ قيلت، بما فيها فكرة الحرية نفسها. اذهب إذن لتحترق بألوانك مثل شهابٍ يمزّق سماء ليلٍ خاوٍ، تاركاً خلفه طيفاً نورانياً من الأمل. وحين سينظر هؤلاء لأثر الضوء الذي صنعته، ربما يمزقون حجب الأفكار المريضة ويفكرون يوماً بالطيران مثلك.
هناك من يروي ظمأه من السراب، وأنا ضده أرى أن النبع قريبٌ قريب. وهناك امرأة تحاول ألف مرة إعادة بناء قصر الرمل المهدم، وأنا ضدها أدرك أن الريح تعصف لا محالة بالرمل والذرات والريش. ربما نتعارف حين تخطو هي نحو الشجرة التي أنام تحتها، وربما نتعانق إن رأيتها تتسلق الغصن يوماً وتبني عشنا فيه.
هؤلاء الذين خرجوا بسرعة البرق ركضاً من جحور العتمة إلى النور، مزّق الضوء عيونهم وصاروا عمياناً. أن تخرج للشمس لا يعني أن تحدّق فيها متحدّياً، بل عليك أولاً أن تغمض على، وأن تغضّ عن، وأن تعرف متى تحيد ببصرك عندما تتكشّف لك المظاهر كلها فجأة في خدعة النهار.
خذ الحياة مثالاً وابدأ معي في الذهاب. وسوف ترى أن التمسك بالأمل هو الذي يقودك من مجهولٍ إلى مجهول. كلما أغلقت دائرة، يفتح لك الزمن أخرى، كأننا نسير في ممراتٍ تتشعّب إلى ما لا نهاية. وحين تسألني: هل وصلنا؟ سأشير إلى باب جديد.
لو سألتك يوماً: هل تعرف الناس؟ هل عرفتهم حقاً؟ خذ قاموساً فارغاً واضرب به رأسي. ولو رأيتني أسير وحيداً في ليلٍ مظلمٍ وأنا أكلم النجمة البعيدة، تأكد أنني سأسقط في الحفرة لا محالة، ولن يهبّ لنجدتي أحد.