مساكين كنا في أسفار زمان، وقت ما كنا طيبين، «اسمينا نكضّ عمارنا، ولا نخلي حاثرة ولا باثرة، إلا ولقطناها، وعقطناها» في تلك الحقائب التي تشبه كثيراً شنط الحجاج الوارمة، كان الواحد منا قبل السفر بشهر يحوط على محلات اللبنانيين في شارع حمدان، فهم أول من أدخل محلات الأزياء والملابس الإفرنجية عندنا، مثل محلات «فياض» و«شارع الحمراء» ودكانين أخرى مثل «الرجل الأنيق» و«بلو مارين» و«السهرة»، وغيرها، وفي تلك الأيام كانت تلك المحلات غالية جداً، وذاك من ذاك من يستطيع أن يشتري منها، فعرفنا بناطيل «الشارلستون» والقمصان المشجرة المزررة، وربطات العنق التي كانت ربطتها أكبر من رأس السنور، وعرفنا البدل «السفاري»، والأحذية ذات الكعب العالي، والتي رأسها مدبب مع قطعة معدنية، والبدل المخططة، أما الذين كانوا يلبسون قمصاناً مقلمة فنعرف أنها شغل السوق المركزي، خاصة مع أقمشة البناطيل الخاكي الواقف «قمر دين»، كانت تشبه ملابس العمال في عيد العمال.
أيامها.. كنا نتكلف الكثير من أجل السفر، بعكس شوابنا الذين كانوا يفصلون «كندورة وكوت» من القماش الصوفي نفسه أو يكتفي بتفصيل صديري، ويرضفه على الكندورة اتقاء للبرد، المشكلة كنا في أعمار تقصر علينا ثياب السنة الفارطة، وبعضنا «خقاق» كل سفرة بزي جديد، لذا نصف ميزانية السفر تروح في المشترى قبل السفر، وأثناء السفر، وبعد السفر كهدايا للأهل.
طبعاً يا ما سافرنا ببدل ثلاث قطع، وربطة عنق، ونتم متوزين تلك الخنقة بالساعات الطوال في الطائرة والمطارات، ونخاف أن نفك «الكرافته»، لأننا لا نعرف أن نعيد ربطتها الأولى، كانت ملابسنا لا تراعي أحوال الطقس، ولا مناسبات الأوقات، فتجد واحداً راضفاً على جنبه قميصاً حريرياً في عز الصيف، أو واحدة لابسة أحمر في ظهيرة شهر أغسطس آب، أيامها.. كان الأمر عادياً أن ترى ذوق صاحب المحل اللبناني على ظهورنا في صيف لندن، وهو ذوق شخص بيّاع، يظل يقترح علينا الألوان التقليدية التي تشبه ألوان مدرسينا في سنة إعارتهم الأولى «بنطلون بيج مع قميص بني، بنطلون كحلي مع قميص أزرق فاتح»، بحيث كنا نميز المصطافين والسياح العرب والخليجيين بالذات من بعيد.
وحدها باريس كانت تفضحنا، وتخجلنا بما كانت تعرض في واجهات محلاتها الزجاجية، وكنا غير قادرين على شراء ما كنا نراه، وترحمنا على البائع اللبناني الذي كان يغالي في أسعاره، وإذا بها أسعار متهاودة قياساً بما كنا نقرأ من أسعار «فاترينات» باريس، يعني منديل حريري صغير بقدر الكف «بوشيت»، تضعه في جيب المعطف العلوي بـ «850» فرنكاً، ربطة عنق بـ«2350» فرنكاً، هذا غير عن «الشامواه، والمونكاسان والبدل السينييه» فكانت أسعارها تمزر بيتاً من «الميوا والراشن والمقاضي» طوال شهر بأكمله.
ويا.. الله لما دخل علينا «فرساتشي» بموجة الألوان المتضاربة والمتناقضة، كيف عفدّنا على شغله، وتمّينا نرضف على عمارنا من قمصانه «الشربت والصالحني والبرميت والباسانيه»، وتشوفنا نصالق في شوارع أوروبا مثل خنير «أبو سعيد».. وغداً نكمل.