كنا أربعة أصدقاء في إجازتهم الصيفية، كان المغرب أول قبلتنا في ذاك السفر، تخلف عنا الرابع في المغرب يجوس دياره، وغامر الثلاثة نحو إسبانيا وتونس ومصر، كنا في أواخر السبعينيات، ونمشي على العمى، وحب المعرفة، وشقاوة العود الأخضر، استقللنا قطار مدريد القديم ليلاً، وظل يخضنا، وبنوم متقلب حتى أوصلنا مع شقوق ضوء الصبح إلى تلك العاصمة التي لا يمكن إلا أن تحبها، دبرنا فندقاً بائساً في شارع «خوسيه أنطونيو»، واستقبلتنا شوارع مدريد بكلام إنجليزي لا يفهمه الإسبان، وبإسبانية خجولة سأتعلق بها كحب لا أود أن أبرأ منه، وفي ساحة «بلاثا مايور» توقفنا عند الرسامين الذين يكدون، ويبيعون شغاف أنين صدورهم، لسياح يظلون يقايضون ببرود على الـ«بيزتا» وكسرها، من دون أن يعرفوا بصدق غرفة ذلك الرسام، وكيف رئتاه تتعبان من الرطوبة الساكنة الجدران، وأن رغيفاً من خبز بائت سيسند ركبه حتى انقضاء ذلك النهار الطويل، كان من بين أولئك الرسامين الذين يفرشون رسوماتهم شخص أعرفه بعمق، فمدرس الفن ومدرس الرياضيات لا يمكن أن تغيبهما الذاكرة، أحدهما أحبه، ويمكن أن يصبح صديقاً، والآخر يبغضني، ولا أتحمل مدة حصته التي تتطاير منها الأرقام، والأحرف المتخشبة، كسين وصاد وجذر تكعيبي أو تربيعي، كان الوجه الذي رأيته بفرح لذلك المدرس العراقي لمادة الفن في صفوفنا الإعدادية، كان يومها شاباً صغيراً لا يكبرنا كثيراً، جاء من بغداد حينما رأى بغداد تتغير، مكث سنوات قليلة في أبوظبي، حينما كانت أبوظبي تتشكل، ثم كان طيرانه إلى مدريد حيث سيكون قدره المكوث والتنقل، والانغماس في الإسبانية وما تجر معها من تجليات الحياة، «عامر البياتي»، كان ذاك المدرس، وكان فرجاً، ومفتاحاً لرؤية إسبانيا بعيون عربية، تفرح بتلك الأماكن الدافئة بزفرات العربي، وسكبات من دمع سخين، حين تتراءى لها «فجائع الدهر أنواع منوعة، وللزمان مسرات وأحزان»، أتذكر الآن دمع ذلك الطالب في قرطبة ومسجدها، في الحمراء، وقصرها، وحدائق جنات العريف، في أشبيلة ومئذنتها «الأريخالدا»، في طليطلة، وبلد الوليد، سيكون الأندلس ومزاراته، وموسيقى ليله، دوره المظللة بروائح الفل العربي والياسمين، تلك القناطر التي تتقوس كشجن يعتصر القلب، وكوداع لا تريده أن يصير، تتداعى للرأس فتاة في ثوبها الأندلسي الحريري، كأيقونة من زمن جميل، تلملم ضياعك بقراطيس في يدها، تسكب في الأذن نغمة من مقامات الصبا، وفي الفم نهاوند من زمان، وعنب وتين ورمان، ساعتها لا تريد أن تسمع إلا خرير ماء بارد يلمع مصفحة خدها.
غامرت باتجاه جغرافيا لا أعرفها، وتاريخ متسربل به، حد الوجع، وحد الوجد، وحد بكاء سبقتني إليه عائشة العربية الحرة، مؤنبة وليدها «عبدالله الصغير» الذي أضاع ملكاً لم يحافظ عليه مثل الرجال! وغداً نكمل.