أشعل/ شب ضوء النار في ظلام حالك، بعد أن جمع بعض الصخور الصغيرة وبقايا ما تراكم معها من عظام قديمة، صنع موقداً صغيراً، صعد دخان رمادي اللون، يمتطي الهواء إلى أعلى، حيث حملته الهبوب الجنوبية، جعل ناقته/ مطيته الشقراء حاجزاً بين سباخ سيح شعيب، وأشجار (الرمرام) و(السبط) التي نبتت وتكورت على تلال الرمل وساحل البحر.
وضع خرج الناقة وأخرج بعض أدواته القليلة والتي لا تتعدى حفنة تمر ودلة للقهوة وفنجاناً صغيراً وفخ صيد حديدياً، كان الجوع يقرصه بشدة ويكاد يهد قوته.. سار مسافة قصيرة ثم نصب فخه الحديدي. كان ليل الصحراء قد تحول إلى ليل بارد بعد حرارة النهار، ذهب إلى الشاطئ يبحث عن أي شيء يمكن أن يستفيد منه، كان يحلم بأن يحصل على سمكة، يسد بها جوعه الشديد، قطع مسافة طويلة وهو ينظر إلى البحر والأمواج التي تأتي هادئة وتداعب الشاطئ/ السيف، لم يحصل على أمنيته، حيث لا تأتي الأشياء بالأمنيات والبحر، لا يقدم هدايا إلا مصادفة وفي حالات نادرة، قد تقفز سمكة إلى (السيف).
عاد إلى موقعه، وعندما اقترب، كانت النار قد اكتمل اشتعالها، والدخان يسري في الفضاء، توقف عندما شم رائحة غليون! تحسس بندقيته، والتي ما تزال معلقة على كتفه، حيث لا يمكن للصحراوي في أزمنة الخوف القديمة أن تفارقه أبداً، حتى في النوم، تتمدد معه مثل زنده ويديه أو قطعة من ملابسه. انبطح على الأرض ووضع البندقية في حالة التصويب، أخذ يزحف بحذر شديد، قال: لن أتركه يسرق ناقتي أبداً، ما هذا الاقتحام والجرأة التي يقدم عليها، هذا قاطع طريق، إنه تحدٍّ كبير، سوف أقطع نفسه ودخانه وغليونه.
جعل أشجار (السبط والرمرام والهرم) متاريس وحائلاً بينه والنار المشتعلة، كان يتقدم في الظلام زحفاً واقتحاماً متدرجاً من شجرة إلى أخرى. اقترب كثيراً من موقعه، بان كل شيء، هذه ناقته مازالت في مراحها وهي تحجز الصحراء عن النار وتعمل مصداً، كما صنعه. ولكن رائحة الغليون مازالت قوية ويشمها الآن وواضحة وبكل تأكيد، إن هناك من يشعل غليونه!!.. على مسافة قصيرة من موقعه، وحيث نصب فخه الحديدي، حيث كان يحلم ويرجو أن يصطاد أي حيوان صحراوي يسد به جوعه الشديد، شاهد حركة غريبة يفضحها سناء النار والضوء الذي يذهب ويعود.. زاد خوفه، ارتجف قليلاً، قال لنفسه: بالتأكيد هذا هو الذي ينفث دخانه، يختبئ بعيداً عن «المراحل» ينتظر حضوري إلى الموقع، ثم يصوّب علي سلاحه، ولكن لن أعطيه هذه الفرصة، لقد فضحه دخانه وغليونه.
صوّب سلاحه على ذلك المتحرك/ المخاتل، والذي تظهره النار تارة وأخرى يختفي، صدح صوت رصاص بندقيته، وخرّ ذلك المتحرك المخاتل دون حراك، زحف بحذر إلى موقع العدو الذي سقط صريعاً، عندما اقترب شاهد أنه لم يقتل غير ثعلب وقع في الفخ الذي نصبه... جن جنونه وأصابه الرعب.. ما هذا!! لا يوجد أي إنسان أو قتيل. في هذه الصحراء الجرداء.. عاد إلى موقع النار التي أشعلها، شمّ رائحة الغليون قوية وواضحة، نبش الرماد، شاهد عظمة، هي التي تنبعث منها رائحة الغليون!! زاد تعجبه ولم يجد بداً من أن يقول، إنها عظمة إنسان قديم كان مدخناً، شرهاً، مات هنا ولعله من محاربي الصحراء، أو هو من قطّاع الطرق أو من الموتى الذين لفظهم البحر.