منذ ما يقارب العقود الثلاثة تقريباً كنت أقوم بتدريب طلبة جامعة الإمارات الذين يتلقون تدريباً إعلامياً في «صحيفة الاتحاد»، وأثناء ذلك كنت أوجههم بالكتابة عن وجهات نظر الآخر المختلفة معهم كلياً!، فكنت أسألهم مسبقاً عن موقفهم حول قضية معينة (هل أنتم مع.. أم ضد؟)، قضايا اجتماعية كالزواج المبكر أو القراءة الإلكترونية، ثم بعد ذلك أقوم بفصلهم إلى فريقين حسب موقفهم، وأطلب من كل فريق أن يبحث في حجج الآخر- الذي يختلف عنه - ويقدمها في اليوم التالي ويدافع عنها وكأنها وجهة نظره ورأيه هو، كان الأمر صعباً عليهم ومُربكاً، ولكنه ساعدهم في نهاية المطاف أولاً في التدريب على طرح رأي من دون تشنج وعاطفة، وثانياً إدراك أن هناك رأياً آخر يستدعي التأمل فيه، ثالثاً منح الذات فرصة لاختبار المختلف الذي قد يكون أفضل..!
ذاك ما كنت أهدف إليه، غير أنه والآن بالذات لم يعد الأمر يحتاج إلى تمرين، كما لم يعد التأمل في وجهات نظر الآخر المختلف فرصة للتفكر واختيار الأفضل، أصبحنا - وللأسف - نعيش واقعاً معلوماتياً غير مسبوق، ليس فقط على مستوى الكمية المتوافرة المتدفقة من المعلومات كل ثانية، وإنما أيضاً - والأكثر تأثيراً - على مستوى مصداقيتها وموثوقيتها.. وذلك رغم تناقضها! بالفعل، لقد زادت مصداقية المعلومات (المتناقضة) بشكل غير مسبوق أكثر من أي وقت مضى، إذ يمكننا أن نتعامل مع معلومة بكامل توثيقها الرسمي والعلمي، مقابل أخرى لها المقومات نفسها ولكنها متناقضة تماماً مع سابقتها، وهو ما أثر بشكل مباشر على قدرتنا نحن أيضاً كأفراد في تحديد علاقتنا مع تلك المعلومات.
إن مجرد عرض معلومة في أحد حواراتنا العادية، يستجلب معلومة أخرى يطرحها آخر في السياق نفسه، ولكنها مضادة ومختلفة جذرياً، وتكمن الغرابة بالنسبة لي في قدرة المعارض صاحب المعلومة المضادة على تبديل رأيه باتخاذ رأي كان قد عارضه قبلاً كحجة له، ولكن في جلسة أخرى حسب المعطيات الجديدة.. وهكذا.
إننا أمام ثقافة جديدة تماماً تفرضها قدرة أولئك الذين يملكون الجرأة على خلط وتمييع الحقائق بتعمد مطلق.