يذهبُ العقل إلى تتبع مسارات الحكمة وأقوالها منذ بداية تدوين التاريخ ونقش عباراته ومقولاته الخالدة في الكتب. تلك المقولات التي ظلت صامدة ولم تتأثر رغم مرور مئات السنين. إذ توحي هذه العبارات التي كتبها الحكماء والفلاسفة والشعراء بأن الثوابت في الوجود لا تتغير، وإن تغيرت نظرة الإنسان إلى ذاته أو واقعه المحيط به. أيضاً، يمكن لقصيدة من عدة أبيات أن تظل تحتفظ بقدرتها على توليد الدهشة وكأن القصائد لا تذبل ولا تتأثر بعوامل الزمن. فهل يعني ذلك أن هناك حقيقة ما ثابتة؟ أم هو المزاج الإنساني الذي لا يتغير ويظل عالقاً في التمسك بثوابت في الفن والجمال والتذوق؟
لتقريب هذه الفكرة أكثر، نذهب إلى اختيار لوحة فنية من القرن السابع عشر، بكل ما تحمله من مقاييس جمالية في استخدام اللون ودقة التصوير وإضفاء الروح الانطباعية لحس الفنان بالمنظر الذي يرسمه، ونقارنها بعمل تركيبي أو تجريدي يتعامل مع الخطوط والمربعات والدوائر ويستخدم الأدوات المجسدة لإبداع لغته البصرية. نقول: ما الذي تغير هنا؟ المزاج الإنساني أم الثوابت الفنية والجمالية؟ هذه النقلة الكبيرة في أسلوب التعبير البصري كانت مرفوضة في السابق، لكن النقد الفني الحديث رسّخ لها، وأكّد على ضرورتها في سبيل تطوير الرؤى البصرية وعدم حصرها في أشكال التعبير القديمة.
الحال نفسه ينطبق على القصيدة الجديدة حين نقارنها بقصائد المعلقات والألفيات. جاء النقد الأدبي الحديث ليطالب أبناء جيل اليوم بالتجديد في أساليب التعبير الأدبي، ومن بعد رسوخ القصيدة العمودية والقصة والحكاية، تفجّرت ثورة الأشكال الأدبية إلى قصائد التفعيلة والنثر والقصة الشعرية والمسرح الشعري والرواية الحديثة، ومجموعة كبيرة من الكتب التي تقع خارج التصنيف وتحتوي على خليط من الأساليب التي تجمع النثر والشعر والأسلوب القصصي والمقولة الفلسفية في سياق واحد، وصار من مهمة النقد الأدبي الحديث أن يرسّخ هو الآخر لهذه التحولات وأن يقرأ في الجماليات التي تتولد من هذه السياقات وتشكّل بالفعل تحولاً جديداً في الذائقة والمزاج والوعي.
ستظل الأشكال الفنية والتعبيرية في حالة بحث دائم عن لغة جديدة في التعبير، لكن على مستوى العمق والمعنى، فإن القيم الجوهرية التي ينادي بها الفنانون والشعراء ستظل تستقي مصادرها من المعاني الإنسانية الخالدة مثل الحب والخير والجمال والرغبة في السلام.