في النقد والنقاد
عندما صدرت قصيدة “الأرض الخراب” للشاعر الناقد ت.إس. إليوت، قامت الدنيا ولم تقعد، وأعجبت القصيدة الكثيرين ممن قرأ الشعر الإنجليزي، ورأوا فيها أفقاً جديداً لشعر حداثي، هو نقيض لكل شعر رومانسي أو واقعي. وأغضبت القصيدة الكثيرين الذين قللوا من قيمتها، وصغروا من شأنها، زاعمين أنها ليست من الشعر الذي اعتادوا عليه، وأنها أقرب إلى الفلسفة منها إلى الشعر. وحدِّث، ولا حرج، عن الذين أخرجوها من الشعر أصلاً، واصفين إياها بالغموض والتفكك والتصنع في آن.
وقال الناقد الفرنسي إدوار جرينيه إن القصيدة ليست شعراً، وأنها يجب أن تخرج من محيط الأدب لتدخل في إطار الفلسفة الخالصة. وعلى النقيض من هذا الرأي تماما ذهب الناقد آي.إيه. ريتشاردز، وكان أستاذ النقد الأدبي في جامعة كمبردج البريطانية، وقد عرفنا كتابه “مبادئ النقد الأدبي” الذي ترجمه محمد مصطفى بدوي في الستينيات. وقد وصف ريتشاردز قصيدة إليوت بقوله: “إن القصيدة، في روعتها إنما تعطينا صورة حية لألاءة من موسيقى الأفكار”. والبعد بين الرأي السلبي في القصيدة والرأي الإيجابي أوضح من أن استرسل في تفاصيله لكنه في حد ذاته دليل على خلاف لا يزال باقياً بين متذوقي الشعر حول ما يمكن أن أسميه “قصيدة الفكر” .
وربما كانت قصائد أبي العلاء المعري في اللزوميات على وجه الخصوص أوضح النماذج لقصيدة الفكر في التراث العربي، وأضم إليها عدداً لا بأس به من قصائد المتنبي وأبي تمام. ولذلك كان بعض القدماء يقول: أبو تمام والمتنبي حكيمان، أما الشاعر فهو البحتري، وذلك لما كانوا يجدونه في شعرهما من تأمل عقلاني في الوجود، على النقيض من البحتري الذي كان يحرص على الوضوح والسهولة وملامح الغنائية التي نراها أوضح ما تكون في غزله ووصفه على سبيل المثال.
وقد مضى على هذا الرأي أسلافنا من الذين اشتغلوا بنقد الشعر وبلاغته إلى أن جاء العصر الحديث، وأخذ الشعراء العرب يتأثرون بالشعر الغربي الذي يحمل أسماء عديدة لشعراء تأملوا في ظواهر الوجود شعراً، وتفلسفوا في قصائدهم ما شاءت لهم رؤاهم الفكرية عن العالم. ولذلك انتقل الخلاف حول قصيدة الفكر من الغرب إلى الشرق، ودخلنا نحن العرب المحدثين في المعترك، وأخذنا نطرح منذ أن قرأنا شعر العقاد وأمثاله عن دور الفكر في الشعر. ومن ثم أخذنا نطرح أسئلة كثيرة عن شاعرية الشعر في كثير من قصائد العقاد مثلاً بالقياس إلى شاعرية الشعر عند علي محمود طه أو إبراهيم ناجي الذي يخلو شعره من الفكر الفلسفي أو التأمل المتعمق في الكون والكائنات. وانحاز النقاد إلى هذا الطرف أو ذاك. والحق عندي هو ما ذكره ريتشاردز من إشارة إلى “صورة حية لألاءة من موسيقى الأفكار”. وإذن فكلما وجدنا هذه الصورة فنحن إزاء الشعر الحق. وهو المعيار الذي أعتمده في ممارستي النقدية فأجد أدونيس أشعر من نزار قباني، وصلاح عبد الصبور أشعر من أحمد عبد المعطي حجازي ولكني لا ألزم برأيي أحداً، فلكل متذوق للشعر الحق في أن يتفق أو يختلف معي.