في عصر التسارع المطّرد في حركة الإنسان المعاصر داخل حيّزَي الزمان والمكان، والانشغال الدائم، والسقوط في براثن الهاتف المحمول وشبكات التواصل الاجتماعي، وطغيان الحياة الرقمية بكل مفرداتها على أنماط الاستهلاك المعروفة، ووسط هذا الزحام الرقمي -فقدت القراءة زخمها، وأصبحت سلوكاً استثنائياً عند كثير من الناس، وصاحَب هذا تسطيح فكري ومعرفي.
وقد أصبح الإنسان محاصراً بسيولٍ من المعلومات، وبات لا يملك رفاهية الوقت أمام هذا السيل المتدفق، ما جعله يفقد القدرة على التحليل العميق، والتفكير النقدي والإبداعي. كما تتعرض العقول إلى حالة من التسطيح حيال القضايا الحيوية المعقدة، إذ بات المرء يجري وراء العناوين الجاذبة للانتباه ذات المحتوى السطحي، ومقاطع الفيديو الفارغة من المضمونَين الثقافي والفكري، ولو توقف للحظة وفكّر في محتواها، لاكتشف أنها مفرغة من المحتوى الفكري أو القيمي الحقيقي. وعند تلك الزاوية ندرك قيمة القراءة بصفتها فعلَ مقاومةٍ ضد هذا التسطيح الذي سقطت فيه البشرية مع الحضارة الرقمية الحديثة.
وعندما يقرأ الإنسان كتاباً أو مقالاً تحليلياً عميقاً، فإنه يمارس عملية ذهنية تحتاج إلى التركيز والتأمل والتفكير بعمق في مضامين ما يقرأ، إضافة إلى الربط بين أفكار ما يقرأ وأفكار ما قرأ سابقاً وأفكاره الذاتية عن الموضوع نفسه، فيصبح الإنسان داخل فضاء فكري ثري بالفكر والرؤى. وإن هذه الآلية الناتجة من القراءة الحقيقية هي ما نحتاج إليه لبناء أجيال مقاومة للتسطيح، والتوجيه الإعلامي عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وتتيح القراءة للإنسان تجاوز الحدود المفروضة عليه، سواء أكانت حدوداً ثقافية أم اجتماعية أم سياسية، فالكتب تزود الإنسان بوجهات نظر متعددة، ما يمكّنه من توسيع مداركه ويمنحه القدرة على تفكيك مفاهيمه القديمة وإعادة تركيبها، وخلق مفاهيم أكثر عمقاً وتطوراً، بعد أن أضحت مصقولةً بخبرات المعرفة المعمقة التي اكتسبها من القراءة، وهو ما يعطي القراءة قوةً نتّكئ عليها في التحرر الذهني من الأفكار المتجمدة والنمطية.
وتمنح القراءة الإنسان القدرة على الوصول إلى مصادر مختلفة ومتنوعة من المعرفة، ما يجعله أقل عُرضة للخداع، وأكثر قدرة على التفكير والتحليل. وإن القارئ الحقيقي لا يقبل أن يكون مجرد وعاء تُصبّ فيه المعرفة، بل يسعى إلى أن يكون فاعلاً، ومتحكماً في بناء آرائه الشخصية، ويكون عضواً إيجابيّاً ناجحاً في مجتمعه.
إننا أمام واقع لا يمكن أن نتحول عنه ونتجاهله، وهو أن المحتوى الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي أصبحتا المصدر الرئيسي للمعلومات، وهذه ليست مشكلة في حدِّ ذاتها، فالمشكلة تكمن في أن محتواهما في أغلبه موجهٌ إلى الاستهلاك السريع، ويخضع لثقافة «الترند» الفارغة، أو لتوجيه الأفراد عبر بناء مجال محيط بذهنيتهم، ينغرس خطوة خطوة فيها، ويبني تياراً من الوعي الموجه. على أن ذلك لا يعني رفضاً للحضارة الرقمية والمحتوى الرقمي، بل هو دعوة إلى استغلالها بما يعزز ثقافة القراءة العميقة، وتنوع مصادرها، وبناء تحليل نقدي عميق لما نتعرض له من سيل من المعلومات والأخبار الزائفة، ووضع حدٍّ فاصل ما بين المحتوى الرقمي الترفيهي العابر الفارغ في كثير من الأحيان من المضمون، والمحتوى الرقمي الفكري العميق الذي يثير في العقل قدرته على التحليل والنقد.
وثمة جانب آخر للقراءة هو الجانب النفسي، فالقراءة وسيلة فعّالة لاستعادة التوازن النفسي، إذ إن الجلوس لقراءة كتاب، وانصباب تركيز الذهنية في محتواه، يعزلان الإنسان عن ضغوطاته الاعتيادية، وعن الحياة النمطية، فيشعر كأنه دخل في فقاعة عازلة، ما يمنحه الفرصة للهدوء والسكينة، ويفتح أمامه باباً على مساحة فسيحة، وعلى تأملات تعيد التوازن للروح المُنهكة من صخب الحياة بكل مفرداتها النمطية والمادية.
إن مقاومة التسطيح أمر مهم، لأن مواجهة الجانب السلبي للمحتوى الرقمي، والقراءة الحقيقية المعمقة هما الدرع الأهم في هذه المواجهة التي نحتاج إلى أن نعزز بها قيمة القراءة الناقدة لدى الأجيال الناشئة، ونحافظ على علاقة قوية بين جيل المستقبل والكتاب.
ويجب أن نختار في نهاية الأمر بين أن نكون مجرد مستهلكين سلبيين للمحتوى الرقمي، ونتحول إلى ما يشبه عرائس الماريونيت، أو أن نكون قُرّاءً فاعلين قادرين على التمييز والتفكير التحليلي، وصانعين للفكر، ومؤمنين بأن القراءة ليست مجرد وسيلة للمعرفة، بل هي وسيلة للتحرر الفكري، وبناء وعي حقيقي قادر على خلق شخصية متفردة نُواجه بها تحديات عصر الحضارة الرقمية.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة