لكي تتحقق التنمية الوطنية يجب أن تنمو كل الجوانب المتعلقة ببناء الأمم بناءً مستداماً، ومثلما نتحدث عن المخزون الاستراتيجي للغذاء والماء والطاقة والذهب، يجب أن نتحدث عن المخزون الاستراتيجي الوطني للأخلاق والقيم والمبادئ العليا، فمن دونها لا تستمر أمة في التفوق، والحفاظ على مستوى التقدم والتطور الذي تحققه، وإنْ كان تقدماً يعد ضرباً من الخيال.
وتكمن المعضلة هنا في القدرة على الموازنة بين تحقيق الأهداف المادية الملموسة، والعوامل غير المرئية والمعنوية التي تهدم الأمم، وتنخر البنى التحتية فيها، وتسير ببطء، ولكن بثبات لتحويل كرامة ورفاهية للشعوب إلى منظومة إقطاعية. وعلى الرغم من أهمية جميع جوانب التنمية الوطنية إلّا أنها ليست متساوية في الأهمية، ويعد بعضها ذا أهمية أساسية، بينما بعضها الآخر له أهمية ثانوية، ومع ذلك، فإن جميعها مترابطة، وتعمل من أجل هدف مشترك. والحديث عن التنمية الوطنية هو الحديث في المقام الأول عن تنمية الأفراد في المجتمع، وللفلسفة هنا مساهمة حيوية في تنمية الفرد، وخاصةً أن الإنسان كائن معقد إلى الحد الذي يجعله يشكل لغزاً ومشكلةً دائمة بالنسبة لغيره ونفسه.
إن التطورات المعرفية الحالية في شتى العلوم والمجالات تسير نحو اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان العيش في عالم لن يضطر فيه للتعامل مع البشر بصورة مباشرة، وستكون مفاهيم الكرامة البشرية والحرية الحالية ذات قيمة وأهمية نسبية ضئيلة للغاية، وربما ليست الأمر الجوهري في المسؤولية الأخلاقية للبشرية، أوتحويل الإنسان إلى أداة ونزع صفته الشخصية، ولن تعد تلك الممارسات جريمة لعدد كبير من البشر. وسيُعد الأخلاقيون بمفاهيمنا اليوم خارجين عن القانون ومتخلفين تكنولوجياً.
أرى أن التطور الأخلاقي من جانب سكان أي دولة، هو شرط أساسي لتطورها، ويجب وضعه فوق التنمية الاقتصادية من خلال التكنولوجيا الحديثة. وتبقى الحقيقة أنه لا يمكن للعلم ولا التكنولوجيا أن يطورا بلداً إذا لم يكن مواطنوه متطورين أخلاقياً، فكيف يمكن أن يكون هناك تطور في بلد لا يعاقب فيه الجميع على الجريمة بمقدار متساوٍ! وعدم حصر الجريمة في المفهوم المتعارف عليه قانونياً، حيث إن أغلب الجرائم وأكثرها بشاعةً لا تصل للمحاكم، وكيف يمكن أن يكون هناك تطور يكون فيه بعض الأفراد فوق القانون من خلال القانون! وهل يمكن أن يتطور اقتصاد أي بلد إذا كان مواطنوه يفتقرون إلى الشعور الأخلاقي بالواجب، والموقف الصحيح تجاه العمل والشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه المجتمع! وهذا لا يعني أن البلدان المتقدمة في العالم تتكون من مواطنين قديسين، والقوانين لديهم لم توضع لتكسر ويتم تجاوزها، ولكن في تلك المجتمعات صوت الفيلسوف يكون مسموعاً، وقد أدت الفلسفة دوراً في تطوير القيادات وحياتهم الأخلاقية من منظور ثقافتهم، ليبقى أثر القيم الفلسفية رقيباً على مسار التنمية.
إن الفلسفة لا تؤثر فقط في عقول الأفراد لقبول أفكار الآخرين أو معتقداتهم بالجملة، بل تجعلهم يفكرون ويستجيبون لأنفسهم، وبهذه الطريقة تقودنا الفلسفة جميعاً إلى تحسين أنفسنا، أفراداً ومجتمعاً ودولة، إنها تتساءل عن أساس الأفكار التي نعيش بها، وكذلك الأساس ذاته الذي من أجله نكون قادرين على الحكم، أو أن نكون محكومين.
التنمية عملية متعددة الأبعاد تنطوي على تغييرات في البنية والمواقف والمؤسسات، فضلاً عن الحد من التفاوت والقضاء على الفقر، وتحقيق أقصى قدر من رفاهية الناس في مجتمعاتهم. وفي هذا الصدد لا شيء يمكن أن يكون أكثر قبولاً من حقيقة أن المجتمع المتقدم هو المجتمع الذي نجح في توفير مصدر رزق لسكانه، وإن مثل هذا المجتمع يرتبط بالقضاء على تهميش الأقليات، وتهميش الأفكار التي لا تتناسق مع السياق العام للمجتمع، ويملك نظماً ذكية تحارب الفساد، ولا يحتاج لمؤسسات لتقضي عليه.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات