منذ وقعت التطورات الأخيرة في سوريا انشغلت دوائر عديدة في الساحة الدولية بمحاولة استكشاف توجهات حكام دمشق الجدد، خاصة بالنظر إلى خلفية التنظيمات التي ينتمون إليها، حيث إن هذه التنظيمات مصنفة في لوائح التنظيمات الإرهابية، وبالتالي، فإنه بقدر الفرحة التي غمرت دوائر سورية وعربية ودولية عديدة لسقوط بشار الأسد ونظامه، كما برزت الخشية مِن أن يحل محله نظامٌ ذو توجهات إرهابية يعيد إلى الأذهان التجربة الأليمة لتنظيم «داعش» في العراق وسوريا، وما ارتبط بها من محاولات لمحاكاتها في بلدان عربية أخرى. صحيح أن تلك التجربة فشلت في النهاية، لكنها أحدثت من الأضرار والمعاناة ما يصعب تصور تكراره. ومن هنا جاء الإلحاح على محاولة استكشاف توجهات النظام الجديد في دمشق. وفي مواجهة هذه المحاولات كان واضحاً أن الرجل الأول في النظام الجديد يتبع استراتيجية محددة تتكون من عنصرين أساسيين؛ أولهما إطلاق تصريحات عامة مطمئنة حول توجهات السلطة الجديدة وظيفتُها طمأنة المتوجسين خيفةً منه. والعنصر الثاني، هو إحالة القضايا التفصيلية إلى آليات ومرجعيات ترجئ الإجابة عن الأسئلة المهمة بدعاوى مختلفة.
وفي العنصر الأول ركز أبومحمد الجولاني في كل تصريحاته على أن سوريا الجديدة ستكون سوريا الحرية والمساواة بين الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الطائفية. وعندما كان يُسأل عن توجهاته الخارجية، كانت الإجابة حاضرة دوماً، وهي أن سوريا لن تعادي أحداً، وأنها أصلاً منهكة بسبب الصراع الذي دار فيها. وهكذا فإن رسائل الطمأنة للخارج لا تُعَد ولا تحصى، غير أن السياسات الفعلية على الأرض، التي ينفذها المنتصرون في مواقع سورية بعينها، تشير إلى ممارسات مناقضة للشعارات المعلنة، وهي ممارسات تتسق وماضي التنظيمات المسيطرة حالياً على السلطة في دمشق.
ويظهر العنصر الثاني في تصريحات الرجل الأول في دمشق هذه الأيام عندما يُسأل أسئلةً محددةً عن الدستور أو نظام الحكم، وهذا بيت القصيد، إذ نجد إجاباته في هذا الصدد حاضرة وواحدة على الدوام، وهي أن هذه أمور لا يفصل فيها إلا الشعب السوري، وبالتالي فإن لجاناً من الخبراء وذوي الاختصاص سوف تُشَكَّل للحوار حول القضايا الرئيسة كافة، والتوصل إلى نتائج محددة بشأنها، وبعد ذلك تُعرض نتاجُ عملها على الشعب في استفتاء عام وتدور العجلة لاحقاً.. وهي خارطة طريق تبدو رائعة، لكن عيبها الرئيس أنها لا تضمن أي شيء. وبالتأكيد فنحن لا نعرف كيف سيتم تشكيل هذه اللجان، ولا كيف ستكون نسب تمثيل الأطياف السورية المختلفة، ولا مناخ الحوار فيها.. وبالتالي، فلا يوجد ما يضمن أن تأتي النتائج معبرةً بحق عن الشعب السوري الذي يتحمل مسؤولية كبرى في هذا الشأن، خاصةً أن ثمة إلحاحاً في تصريحات مسؤولي السلطة الجديدة على معنى أن الدستور يجب أن يتسق مع ثقافة الشعب السوري التي لا نعرف رؤيتَهم لها، بل لا يوجد أصلاً ما يضمن أن يسود الاستقرار سوريا في المستقبل المنظور، نظراً للطبيعة الفسيفسائية للديموغرافيا السورية التي تقتضي جهداً دؤوباً وموضوعياً للتعامل معها، فما بالنا بحكام ذوي خلفيات شديدة الوضوح في معاداة شرائح سكانية بعينها.
أعان الله شعب سوريا الحبيبة على أن ينهض بدوره في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة من أجل ضمان حقوقه التي ناضل من أجلها طويلاً، وقدم تضحيات هائلة في سبيلها.

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة