ما شهدته الساحة السورية من أحداث سياسية وعسكرية خلال الأيام الماضية، كان مفاجأة مذهلة للعالم كله، لا سيما من حيث السرعة التي انهار بها النظام من غير قتال ولا مقاومة تذكر، وكذلك الفرح الذي غمر كثيراً من قطاعات الشعب السوري بتغيير النظام الذي يعتبرونه الأشد قسوةً وبطشاً واستبداداً في تاريخ بلادهم.
وبسبب ظروف الموقع والجغرافيا والنظام السياسي الحاكم السابق الذي استطاع أن يستمر طيلة 54 عاماً محكِماً قبضتَه الحديديةَ على البلاد.. كان تغيير الأسبوع الماضي في دمشق دراماتيكياً ومفاجئاً للمراقبين وصناع القرار في معظم أنحاء العالم. وأعلن المعارضون المسلحون عن حكومة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر تنتهي مهمتها في مارس القادم، لبسط الأمن والاستقرار ولاستلام مؤسسات ومرافق الدولة السورية، ولوضع خطة طوارئ.. وذلك بغية طمأنة السوريين من مكونات المجتمع وأطيافه كافة، وبهدف العمل على توفير الخدمات المعيشية للسوريين وضبط الأسواق ونزع السلاح.. وهي مهمات عاجلة يوافق عليها السوريون من جميع الانتماءات القومية والدينية. ولعل فرحة السوريين تكتمل عندما تتوصل قواهم السياسية إلى تشكيل حكومة وطنية تحترم إرادة الشعب وتصون حريتَه وتحقق آماله وتجسد تطلعاته نحو المستقبل المشرق الذي وعدت به المعارضةُ السورية، في خطاباتها وتصريحاتها، منذ سنوات طويلة، وهي مطالَبة الآن بالاستجابة لتطلعات السوريين وطموحاتهم إيذاناً بمرحلة جديدة يتعزز خلالها الأمن ويتحقق الاستقرار في المنطقة ككل. وهناك هواجس كثيرة ومخاوف مبرَّرة حيال بعض القوى المتربصة بسوريا وباستحقاقاتها الجديدة، وهي قوى اعتادت القفز على الثورات ومحاولة سرقتها من أهلها الحقيقيين، وهو ما يتطلب من السوريين حالياً التزام اليقظة والحذر إزاء أي جهة مشبوهة متشددة تسعى إلى ركوب موجة التغيير والاستيلاء على البلاد بقوة السلاح، مستغلةً الفراغَ السياسي، كي تقلب الطاولةَ على الشعب السوري وتصدمه مرة أخرى، بعد أن عانى الأمرَّين في الداخل والشتات. وإذا ما حدث ذلك فستكون هناك مخاوف من أن يعود السوريون مجدداً للتفرقة والتهجير والنزاع والاقتتال الطائفي.. فيزداد تمزق المجتمع السوري وتتعمق فرقته أكثر من ذي قبل. نتمنى على قيادة المرحلة الجديدة المؤقتة الاستفادةَ من أخطاء مَن سبقوها، تجنباً للفوضى والعنف والمحاصصة الطائفية، وكي لا تفقد سوريا هويتها وسيادتها الوطنية وأصالتها التاريخية.
الشعب السوري بحد ذاته يمثل ثروةً بشريةً هائلةً من الكفاءات والخبرات المتنوعة، وكانت سوريا واحدة من الدول القليلة التي لم تقترض من صندوق النقد الدولي، ولم تكن مطالَبةً بديون دولية ضخمة، وهي تكتفي بإنتاجها الذاتي المحلي من المياه والزراعة والصناعات الوطنية. نأمل أن تستقر سوريا وأن تستثمر طاقاتها البشرية الضخمة، تحقيقاً لصالح الوطني السوري العام، تحت مظلة حكومة شرعية موحدة، تستمد شرعيتها من إرادة شعبها وخياراته الوطنية، وتحافظ على وحدة البلاد ولحمتها الجامعة وهوية شعبها بكل طوائفه وإثنياته ومذاهبه، كشعب منسجم ومنصهر في بوتقة هوية وطنية واحدة وتحت راية تمثله دون أي تدخلات خارجية.. لتنعم سوريا بالحرية والأمن والاستقرار، بعد أن أنهكتها الحروب وأتعبتها الصراعات والاصطفافات الإقليمية الهدامة التي نتمنى أن تختفي بلا رجعة، لكي ينعم الشعب السوري بأرضه الخصبة ومياهه العذبة وهوائه النقي.. وألا يتلوث أي شيء من ذلك بالإرهاب الأعمى الذي يحاول الدخولَ من كل الجهات على حين غرة، بغيةَ العبث بسوريا مجدداً والعيث فيها فساداً ودماراً وتخريباً.
لقد هاجرت وهُجِّرت من سوريا كثير من النخب والكفاءات.. وآن لها أن تعود من جديد، وأن تعود سوريا العربية الحرة الأبية، وأن تشرق من الشام شمس الأمل وأن ترفع رايتَها عاليةً تطاول جبلَ الشيخ وقممه الشامخة!
* كاتب سعودي