(55) يُخَيَّلُ لِي أَنَّ البِلَادَ مَسَامِعِي* وأَنِّيَ فِيهَا مَا تَقُولُ العَواذِلُ
يُخَيَّلُ لِي أَنَّ البلادَ مَسَامِعِي: تُرَاوِدُ خَيَالِي فكرةُ أنَّ الدِيَارَ التِي أتَنَقَّلُ بَيْنَهَا، هِي آذَانِي الَّتِي أَسمَعُ بِهَا. وقَصْدُه أنَّ دَوامَ تَنَقُّلِي بَينَ بَلَدٍ وآخَرَ، وعَدَمَ استقراري في بَلَدٍ، شَبِيهٌ بِعَدَمِ استِقْرَارِ حَدِيثِ العَوَاذِلِ فِي سَمْعِي، بِمَعنَى أنِّي لا أُلْقِي لَهُ بَالاً، ولَا أُنصِتُ لَهُ. 
وفي الباب قول البُحْتُري:
تَقَاذَفُ بي بِلَادٌ عن بِلَادٍ * كأنِّي بينَها عَيْرٌ شَرُودُ

(56) نَصِيبُكَ فِي حَيَاتِكَ مِنْ حَبِيبٍ * نَصِيبُكَ فِي مَنَامِكَ مِنْ خَيَالِ 
المعنى هنا أنَّكَ بِقَدْرِ ما يَتَحَقَّقُ لَكَ في الوَاقِعِ مِمَّا تَراه في نَوْمِكَ مِنَ الأحْلَامِ، يكونُ نصيبُكَ مِنْ حَبِيبِكَ في الحياةِ. وذلك لأنَّ لِقَاءَ الحَبيبِ يَمُرُّ سرِيعاً، وكأَنَّهُ مِنْ خَيَالَاتِ المَنَامَاتِ التي تَعْبُرُ مثلَ سَحابٍ تَذْرُوه الرِّيَاحُ، فهو عِلْمٌ أشبَهُ بحُلْمٍ، سريعُ الانْقِضَاءِ، لَا يُشْبِه الواقِعَ أبَداً.
قال الواحدي: «جعَلَ العُمْرَ كالمَنَامِ، والموتَ كالاِنْتِباهِ مِن المَنامِ، كما قالَ أَبُو تَمَّامٍ: 
ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السِّنُونُ وأَهْلُهَا * فَكَأَنَّهَا وكَأَنَّهُمْ أَحْلامُ.

(57) رَمَانِي الدَّهرُ بِالأَرْزَاءِ حَتَّى * فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
الأَرْزَاءُ: مُفْرَدُها رُزْءٌ، ويُجْمَعُ على أَرْزَاءٍ، ورَزِيئَةٌ تُجْمَعُ على رَزَايَا، والمعنَى: المُصِيبَةُ.
قَالَ الفَرَزدَقُ: 
إِنَّ الرَّزِيئَةَ لَا رَزِيئَةَ مِثْلَهَا * فُقدَانُ مِثلِ مُحَمَّدٍ ومُحَمَّدِ
يقولُ: ما يُصِيبُنِي مِنَ المَصَائِبِ إنَّما هي سِهامٌ كثيرةٌ يَرْمينِي بها الدَّهْرُ (الزَّمَنُ)، حتى صارَ قَلْبِي في غِشَاءٍ من نِبالٍ: أيْ في غِلَافٍ مِنْ سِهَامٍ، مِنْ كَثْرَةِ ما رُمِيَ بالسِّهِامِ في كُلِّ جُزْءٍ منه.
(58) فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْنِي سِهَامٌ * تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ
يقول: فَأَصْبَحَتِ السِّهامُ التي تُصيبُنِي تَتَكَسَّرُ نِصَالُهَا، (والنِّصَالُ هي الحَدَائِدُ المُدَبَّبَةُ في رُؤُوسِ السِّهَامِ، بسببِ انْصِبَابِ بعضِها على بَعْضٍ).
يَتَحدَّثُ أحمد الهاشمي في (جواهر البلاغة)، عن البيتَيْنِ سَالِفَيْ الذِّكْرِ، قائلاً: إنَّ المتنبي «لم يَكْتَفِ بتَصْويرِهِ المَصَائِبَ سِهاماً في سُرْعةِ انْصِبَابِها، وشِدَّةِ إِيلَامِها، ولَا بالمُبَالَغَةِ في وَصْفِ كَثْرَتِها، بأَنْ جَعَلَ منها غِشَاءً مُحِيطاً بفُؤَادِه، حتَّى جَعَلَ ذلك الغِشاءَ مِنَ المَتَانَةِ والكَثَافَةِ، بحيثُ إنَّ تلكَ النِّصَالَ مع اسْتِمْرَارِ انْصِبَابِها عليه لا تَجِدُ مَنْفَذاً إلى فُؤادِه، لأنَّها تتكَسَّرُ على النِّصالِ التي سَبَقَتْهَا، فانْظُرْ إلى هذا التَّمْثِيلِ الرائعِ، وقُلْ لي: هلْ رأيتَ تَصْويراً أشدَّ منه لِتَرَاكُمِ المَصَائِبِ والآلَامِ؟».
قال ابن الشَّجري في أماليه:
«ومَا وَصَفَ أحَدٌ ما اعْتَوَرَهُ من نَوائِبِ الدَّهْرِ بأحْسَنَ من قولِهِ: 
رَماني الدَّهرُ بالأَرْزاءِ حتَّى * فُؤَادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ
فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ * تكَسَّرَتِ النِّصَالُ على النِّصَالِ».

(59) وَهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايَا * لِأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي
يقول: إنَّ رَمْيَ الدَّهْرِ لي بالمَصَائِبِ سِهاماً قَدْ هَانَ عليَّ، أيْ أصبَحَ هيِّناً سَهلاً لا يُشَكِّلُ لي عِبئاً. وحذَفَ الشاعرُ الرَّمْيَ، والرَّامِي وهو الدَّهْرُ، لأنَّ الأبياتَ السابقةَ تَدُلُّ عليهِمَا. فما أُبالِي بالرَّزَايا: أيْ ما عُدْتُ أهْتَمُّ بالمَصَائبِ، ولا أَجْزَعُ لَها (الجَزَعُ عكسُ الصَّبْرِ)، فلقد جرَّبتُ أنْ أَهْتَمَّ لها، فما نَفَعَنِي هذا الاهتمامُ، فاخْتَرْتُ ألَّا أَفْعَلَ ما لَا يَنْفَعُ، ولذلك صِرْتُ لا أهْتَمُّ بالمَصائِبِ.
وفي هذا المَذْهَبِ الذي اِخْتَارَه الشَّاعرُ، دَرْسٌ وعِبْرَةٌ، فما لا تَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَه بالتَّفْكِيرِ فيه، خيرٌ لكَ ألَّا يَشْغَلَ تَفْكِيرَكَ.