(52) ولَمْ تَزَلْ قِلَّةُ الإِنْصَافِ قَاطِعَةً * بَينَ الرِّجَالِ وإِنْ كَانُوا ذَوِي رَحِمِ

الإنصافُ: العدلُ في الأقوالِ والأفعالِ. 
الرَّحِمُ: القَرَابةُ.
المعنى: قِلَّةُ الإنصافِ في النَّظرِ إلى الأشياءِ والأشخاصِ وتقييمِهم، تُسبِّب القطيعةَ بين الناس، حَتَّى وإِنْ كَانَ هَؤلاء الناسِ مِنَ المُرْتَبطين بصِلَةِ الرَّحِمِ فيما بينَهم، فما بالُكَ بمَنْ لا يرتَبِطون منهم بقَرابةٍ. 
والمَقصَدُ أنَّ القُرْبَى مَظَنَّةٌ لِلْوَصْلِ، لكنَّ قِلَّةَ الإنصافِ لا تُبْقِي للقُرْبَى دَوْراً في مَنْعِ القِطِيعةِ. أيْ إنَّ قِلَّةَ الإنْصافِ أقْوَى مِن رَوَابطِ القُرْبَى.
وقال: (قِلَّةُ الإنصافِ)، ولم يقل: (ذَهابُ الإنصافِ)، دَلالةً مِنهُ على أنَّ الأثَرَ السَّلبِيَّ لقِلَّةِ الإنصافِ مُتَحَقِّقٌ، فما بالُكَ بأثَرِ ضَياعِ الإِنصَافِ كُلِّهِ؟!
وتقاطُعُ الناسِ يُطيلُ الجَفاءَ بينَهُم، فليسَ مثلُ الوَصلِ يَرْدُمُ جَفاءَ العَلاقاتِ.
وفي البابِ ذاتِه، يقول مَعْنُ بن أوسٍ المُزَنِيِّ:
إِذا أَنتَ لَم تُنصِفْ أَخاكَ وَجَدتَهُ * عَلى طَرَفِ الهِجرانِ إِن كانَ يَعْقِلُ
أيْ إذا لم تكُنْ عادِلاً في تعامُلِكَ مع أخيكَ، وتُوَفِّرُ لهُ ما تطلبُ منه توفَيرَه لَكَ، فإنكَ ستَجِدُهُ يُوشِكُ على هَجْرِكَ، ويَذْهَبُ تُجاهَ مُفَارَقَتِكَ، إذا كان مِنَ العُقَلاءِ.
وفي مَدْحِ الإِنْصافِ، يقول أبو الفتح البستي: «الإِنصَافُ أَحْسَنُ الأَوصَافِ».

(53) خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئاً سَمِعْتَ بِهِ * فِي طَلْعَةِ البَدرِ مَا يُغْنِيْكَ عَنْ زُحَلِ
(ما تَراه): ما تنظر إليه حقيقةً ماثلةً أمامَكَ. 
(شيئا سَمِعْتَ به): لَمْ تُشَاهِدْهُ بِعَيْنِكَ وقد لا تُشَاهِدُهُ.
قال أبو الفتح عثمان بن جني، تعليقاً على بيتِ القصيدِ:
«هَذَا مِنْ مَحَاسِنِ المُتنبي، ومَعْنَاهُ: فِيمَا قَرُبَ مِنْكَ عِوَضٌ عَمَّا بَعُدَ عَنكَ، لا سيَّمَا إذا كان القريبُ أفضلَ من البعيدِ».
فالشَّاعرُ شَبَّهَ ما هو مُتَوَفِّرٌ لدَيْكَ بالبَدْرِ، واعتَبَرَ أنَّه يُغْنيكَ عَمَّا تتطلَّعُ إليه وأنتَ لا تَعْرِفُه ولم تَرَه، وشَبَّهَهُ الشاعرُ بكَوْكَبِ زُحَلَ، فنحن نَعرِفُ البَدْرَ بالنَّظَرِ لاعْتِيَادِنا على مُشاهَدَةِ القَمَرِ مُعْظَمَ لَيَالِينَا، ولا نَعرِفُ زُحَلَ لعَدَمِ مُشاهَدَتِنا له.
وما أكْثَرَ ما يَغْفُلُ الإنسانُ عن قِيمَةِ ما لَدَيْهِ، في غَمْرَةِ انْشِغَالِه بالتَّطَلُّعِ إلى ما ليسَ لَدَيْهِ.
قال بعضُ السَّلَفِ: لَا تَتَكَلَّفْ مَفْقُوداً حتى تَفْقِدَ مَوْجوداً. أيْ لا تَبْحَثْ عمَّا ليس عِنْدَكَ، حتى تَفْقِدَ ما عِنْدَكَ، فالاِكْتِفاءُ بما لديكَ عَقْلٌ وعِفَّةٌ وقَنَاعَةٌ.
ونحوَ بيتِ القصيدِ قولٌ لأبي تمام، جاء فيه:
أَعِنْدَكَ الشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِهَا * وَأَنْتَ مُشْتَغِلُ الأَلْحَاظِ بِالقَمَرِ

(54) لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَواقِبُهُ * فرُبَّمَا صَحَّتِ الأجْسَامُ بِالعِلَلِ
قال ابن جني عن بيت أبي الطيب: «هذا مِن الكلامِ الذي يَقْضِي بفَضْلِه كُلُّ مَن فَهِمَهُ». 
وركز على الفهم، إذ قال المتنبي، في بيت له:
وكَمْ مِن عَائِبٍ قَولًا صَحِيحاً * وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
وأرسطو يقول: عِلَلُ الأفهامِ أشدُّ من عِللِ الأجسامِ.
عَتْبَكَ: العَتْبُ والعِتابُ لومُ شخصٍ على إساءَتِه. والكاف في (عَتْبَكَ) عائدةٌ إلى المُخاطَب، الذي يقول له الشاعر: رُبما كان عِتَابُكَ لي فيه ما يُحْمَدُ من النَّتَائِجِ، بِتَرْكِي ما عَتَبْتَ عليَّ فيه، خِلافاً لِمَا اعتادَ الناسُ مِنْ كَرَاهيَةِ العَتْبِ ونُفُورِهم منه، وهكذا فَقَدْ تَكونُ بعضُ الأمْراضِ سَبَباً في الصِّحَّةِ العامَّةِ، وبها تَتَحَقَّقُ سلامةُ الأبْدَانِ.
ومِنْ فَهِمَ ما سبَقَ، تَأَنَّى في سَائِرِ شُؤونِه، فرُبما كان خَيْرُه فيما يَبْدُو له شَرّاً.