إن أي تفكير في «ما الذي ينتظر غزة بعد ذلك؟» لا بد وأن يواجه حقيقتين؛ الأولى هي السذاجة المتمثلة في وضع الكثير من الثقة في وقف إطلاق النار الحالي.

والثانية هي عدم الحساسية الخطيرة المتمثلة في الفشل في فهم الخسائر البشرية الحقيقية لهذه الحرب وهي أكبر بكثير من عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا أو أصيبوا على يد القوات الإسرائيلية. إن التوقف في قصف إسرائيل لغزة هو بالطبع تطور مرحب به. قد حصل الفلسطينيون أخيراً على بعض الراحة، والفرصة للحزن، وبالنسبة للبعض، إمكانية الزحف شمالاً، لتقييم الأضرار التي لحقت بأحيائهم التي تعرضت للقصف والتنقيب بين الأنقاض للعثور على جثث أفراد الأسرة المفقودين.

كما سمح التوقف بتدفق هائل من المواد الغذائية والإمدادات الإنسانية إلى غزة ومرور الفلسطينيين المصابين بجروح خطيرة إلى مصر للعلاج. لكن الخبر السيئ هو أن الاتفاق ضعيف، ولا توجد آلية إنفاذ. تضمنت الخطة الأصلية للرئيس بايدن، التي عُرضت قبل أكثر من ستة أشهر، موافقة الطرفين على المراحل الثلاث منذ البداية.

وبحسب الصحافة الإسرائيلية، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يؤكد لأنصاره أنه لن يحترم سوى المرحلة الأولى قبل استئناف القصف. ولن يسحب القوات الإسرائيلية من غزة، ولن يسمح بحكم فلسطيني في غزة يربطها سياسياً بالضفة الغربية. لقد اختارت إدارتا بايدن وترامب تجاهل نوايا نتنياهو من أجل الاحتفال بـ«نجاحهما». كان بايدن يوفر الدعم والغطاء للزعيم الإسرائيلي منذ البداية.

فمنذ أكتوبر 2023، دعم بايدن وفريقه أهداف نتنياهو وأعطوه حرية التصرف. وعلى الرغم من إصرارهم على أنهم كانوا يسعون بجدية إلى وقف إطلاق النار لمدة ستة أشهر، فإن الإدارة كانت تعلم بوضوح أن نتنياهو لن يوافق. ومع ذلك، استمروا في الادعاء بأن إسرائيل تدعم ذلك، بينما كانت «حماس» هي العقبة. وتستمر المسرحية الهزلية مع هذا الاتفاق. بايدن يعلم أن وقف إطلاق النار ذو مدة محدودة، لكنه احتاج إلى «انتصار العلاقات العامة» لإنهاء ولايته. قدمت الهدنة الشيء نفسه للرئيس دونالد ترامب - عرضاً مبكراً لقدرته على حل مشكلة أزعجت سلفه. ولا يهم استمرار وقف إطلاق النار لأكثر من بضعة أشهر. فترامب، الذي يحرص على الاستعراض إلى الأبد، لا يهتم إلا بالتقاط الصور وتعزيز شعبية الشعب، وليس بمدة استمرار وقف إطلاق النار. من الواضح أنه لا هذه الحكومة الإسرائيلية (أو خليفتها المحتملة)، ولا إدارة ترامب (أو خليفتها المحتملة) لديها أي مصلحة في التوصل إلى حل عادل للصراع.

وحتى لو تجاهلنا وقف إطلاق النار، على الرغم من الخطط الجارية لبناء السلام بدءاً بحكومة مؤقتة في غزة، فلا يوجد قبول حقيقي من جانب الإسرائيليين. ولن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لاتخاذ الخطوات اللازمة لدفع السلام إلى الأمام. والحقيقة المقلقة بنفس القدر هي أن الحروب لها عواقب طويلة الأمد بعد توقف القنابل عن السقوط والتي تظل كامنة لسنوات قبل أن تظهر نفسها. والإسرائيليون ومساعدوهم الأميركيون، الذين لم يفهموا قط إنسانية الفلسطينيين، لا يستطيعون استيعاب التأثير طويل الأمد لهذه الحرب الكارثية على الناجين منها.

والأرقام مذهلة: 47 ألف قتيل، و116 ألف جريح، و33 ألف مصاب بإعاقات دائمة، و50 ألف مفقود ومجهول المصير، و90% من السكان (نحو 1.9 مليون نسمة) أجبروا على الانتقال إلى أماكن أخرى، وأصبح أغلبهم الآن بلا مأوى، و34 ألف طفل يتيم بلا أي أفراد من أسرهم على قيد الحياة. قد تستغرق إزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة في غزة عقدين من الزمن، ثم وقتاً أطول لإعادة البناء. أما شفاء جروح الحرب التي تعصف بالناجين، فسيستغرق وقتاً أطول بكثير.

يمكن إيقاف القصف، لكن تأثير هذه الحرب المدمرة سيأخذ وقته ليتجلى على مدى جيل آخر، حيث تؤدي الصدمات والقلق والاكتئاب الشديد والعنف الداخلي إلى إيذاء النفس أو مهاجمة الآخرين. وما يزيد من تفاقم هذا الألم هو الصدمة التي شعر بها الفلسطينيون عندما رأوا أنقاض منازلهم السابقة وأنقاض مجتمعاتهم السابقة. خلال عقود التنظيف وإعادة البناء، إلى أين سيذهب الفلسطينيون؟ إن الإسرائيليين لن ينظروا بعين الرحمة إلى هؤلاء الناجين من الحرب.

والواقع أن الفلسطينيين يخشون بحق أنه إذا غادروا ما تبقى لهم في فلسطين، فلن يسمح لهم الإسرائيليون بالعودة. لا الولايات المتحدة ولا الإسرائيليون مستعدون لضمان تقديم المشورة والرعاية اللازمة لعلاج جروح الحرب لهذه المجموعة من الضحايا. وبالتالي، فإن المستقبل غير مؤكد، لكنه يميل إلى القتامة.

* رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن