منزل في الذاكرة، وآخر على الأرض، وكلاهما يتداعى قوة، ويستدعي في الحياة كيف يكون للعمر شواهد عندما تتزحلق الصورة كعود أبدي، وتمضي في اختزال العمر بصورة لا تترك مجالاً للانفكاك، ولا تدع العقل يغوص في لجة الحاضر إلا ومعه خوذة النجاة من الضياع في تلافيف عالم يسرع نحو غايات أشبه، بالصحراء المفتوحة على المدى.
في البيت القديم، لمحت صورة وعليها وشم لحظة ما في زمن ما، كان الوشم مبعث دهشتي، حيث استوعبت كيف حصل ذلك، ومتى، ولماذا، توقفت هنيهة وتأملت، توجست قليلاً، كون الصورة جاءت على شكل هيئة غامضة، وملتبسة، ثم استعنت بشجاعة الطفولة، وتمسكت بتلابيبها، حتى شعرت بأن مياهاً باردة تجري تحت جلبابي، وأن المكان توقف فيه الزمن في تلك اللحظة، وبعد فترة ليست بالقصيرة، رفعت رأسي، ورأيت ما يراه النائم من أضغاث، ولكنها ليست أضغاثاً، بل كانت صوراً لوجوه مرت من هنا، من طرف خفي، هنا استتبت ذات زمن، وهنا طافت تمرر عطرها، وهنا دارت من حول الذاكرة، لتحيي زماناً، كان زمان العريش المحاك بحبال، والنسيج بجريد النخل، وكان يحفظ بين جدرانه الرقيقة أرواحاً، أخف من قطرة الندى، كان يضم في زواياه ما يشبه رائحة الوردة المقطوفة تواً، وكنت أدور حول الديار المنعمة، بأهداب التين، والليمون، وكنت كمن يبحث عن لقية في أرض رملية، كنت أشعر بحرقة في القدمين الحافيتين، وحرقة في الصدر، وكلاهما دليل لظى، وشغف، ولكن رغم تلك القسوة الطبيعية، كان للعريش حنينه، وأنينه، وسطوته، ونشوته، كنت في الزمان طائر يجوب فضاء الصيف بجناحين أضعف من مروحة يدوية قديمة، كنت أجوس المكان رفقة خيال مزدحم بصور، ومآلات ذاكرة رملية، تحثو ذراتها في طريقي، فاستبد في إصراري على المضي قدماً من أجل رغيف حاف، أو من أجل رشفة من شفاه أبريق معدني ملقى عند جادة مهجورة في البيت القديم.
أهذا حلم، أم أنه لقطة تذكارية للوحة تشكيلية، علقت على جدران الذاكرة منذ أمد بعيد وها هي الآن، تسقط في طريقي، فأتلقفها بلهفة عاشق مضه الزمان بمرارة، وألقمته الحياة مضغة بؤس، وهذا البيت القديم، الواقف مثل كهل ضرير، يتكئ على عمره، وينظر إلى المدى، ينظر إلى هذا الطفل الكبير الذي ساقته موجة الذكرى، كي يأتي، ويتوقف، متأملاً، ويكحل الجفنين بإثمد الأحلام، سالفة الذكر، ثم لا يمضي، بل يتسمر، ويستمرئ الوقوف، عند ناصية صمدت حيرى من زمانها، وأجهش الطير بكاء على تداعي الجدران التي كانت تحفظ عشه من الزوال، كما وماءت قطة، يخرج صوتها من أنبوب مقشر، متهالك، ونطر إلى الواقف كتمثال قديم، وظلت تموء، ظلت تستجدي، شيئاً ما، ولكن الواقف لم يعِ لغة الحيوان، وذاك سليمان الذي تلقى نجدة النمل، بدهشة، ووعي.
مرت ساعة، وبعض الدقائق، وكنت في الزمن، عقرب ساعة، تحرك شعرة اللحظات بتأن، تعب، وتطوي جدائل العمر، بخيط التأمل، واستجداء الذاكرة، المفعمة، بالصور، صور أحباب، وأصحاب، مروا من هنا، وتركوا أثر أقدام على تراب الذاكرة، تركوا ملامح زمن معشقة بألوان زهرية، عطرية، تملأ جعبة الروح، بالحنين، حنين إلى تلك، وذاك، وكل له في داخلي ألمه اللذيذ، كل له في حياتي، ضوؤه، المختفي تحت ملاءة الأيام.