تحت سماء سقفها من حرير الغيمة، وبصيص النجمة التاريخية، تحلم بشجرة تصفق من أجل الحياة، ومن أجل ثمرات تراقصت بين الغصون كأنها في حفلة قران وجودي بين الأنا والآخر.
في هذه الليلة وأنا أزف خطاي إلى مرتع غزلان البهجة، كنت في الطريق إلى لقاء مع ذات لها أسور من فرط الأيام السالفة، وعقد يطوق بياض المهجة، وخصلة كأنها عنقود ابتهال في لحظة متأججة، لها في القلب موجة التاريخ عندما يكون التاريخ سلسال أحلام ترامت، وترافقت، وتأرجحت، وانسكبت في كأس الذاكرة، تحدب في فيافي الزمان وتعقد العزم على ريحان، ورايحة، وبوح الصور الجزلى.
فهذا شتاء جاء يحمل في الطيات بعض طفولة، وبعض عفوية، وبعض أراجيح، وأغنيات ملكت لب الحياة، واستبدت لما أيقظت في الروح شياطين اللهو، عند سواحل البراءة الجميلة. هذا شتاء لأجمل وطن، وأجمل قيادة، وأجمل شعب، أبى إلا أن يكون في الزمان كتاب مرصع بحروف الضاد، منمق بجمل الأيام التي خلت، وعلت، وسامرت، وساورت، وسورت القلب بأشجان، وألحان، عطرها لم يزل يخفق بين جناحي قلب، طائره لم يزل يغرد، ولأجل وجود كان في الروح دم، ونغم، ودوزنة لأوتار قيثارة صحراوية ثرية بالمعنى، جزيلة بالمغنى، وأنا.. أنا الذي كنت في ضمير القيثارة ترنيمة مفعمة بأشواق أحرقت أعواد القلب، ولم يزل في القلب بعض دخان لونه من ذاك الذي أقبل، وتولى، ثم خبا، ثم انطفأ، ثم استبدّ في الرأس حتى كاد الرأس يخلع عن فروته جبة العمر، ولكن، هذا هو، هذا هو المعنى لم يزل يقتفي أثر خطوات مرت من هنا، من طرف خفي بين الضلوع، والضلوع أهداب مدت للمدى مخمل المشاعر، والمشاعر منخل سماوات جاشت، واحتشدت، وما فارق القلب مضارب الهوى، وللهوى بوح، وصدح، للهوى تباريح، وتصريح ليس له أول، ولا آخر، بل إن القلب هو ذاك النجم البعيد، يمضي في الرميض، ولا تتلاشى صورته، وهكذا يأتي الشتاء، ومعه صور، وأحاديث الليل، وهمس، ونبس، وحدس الرواية الوخيمة، وهي تزلزل في الأعمق موجات، ورفرفة زعانف ما هيأ لها الليل غير دامس، عابس، قابس في بعض حين.
في هذا الشتاء، ترادفت جملة من غزلان، تحف عشب القلب، وتمضغ الشريان، بنشوة العاديات، ضبحا، وأرسل الصوت الخفيض حياءً، واستدعي التاريخ لعله يسكت ذاك الهدير، ولعلي أنجو من عراء صحرائي، لعلي أخلع قميص ذاك المغدور، وأنظم الكلمات عناقيد، ثم أمضي في ليلة شبه باردة، أدفئ حلمي بمعطف الصبر، لعلي أخرج من ليلة الوحدة العارية بابتسامة نجمة تغير من مجرى كوني، تغيرني، وتستعيد لي ذاك الحلم الهارب من قفص الصدر، وتستعدي جملة أفكاري حتى يصحو الليل، وتفر غزلان التهور، ولا يبقى سواي، وهذه النبتة البرية أداعب نعومتها، وألمس خصلة الشغب، بشغف لا مثيل له سوى ما في داخلي.
فشكراً لشتاء بلادي، شكراً لقيادة هيأت للشتاء من أمره رشدا، شكراً لشعب، عانق الحب أحلامه، وأيامه.