بعض الأفكار مثل حثالة القهوة، مرة بطعم العلقم، ولكن يظل المتمسكون بها، ينعمون بضمير سكتت عقارب ساعته، وتولى الزمن، وأدبر عنه، بحيث أصبح يعيش خارج الزمن، بعيداً عن عقارب الساعة، قريباً من الحفر السوداء. يتمسك الإنسان بأفكاره حتى وإن كانت مثل نشارة الخشب، حتى وإن كانت مثل نفاية خرجت سهواً من مكبات الزبالة، حتى وإن كانت قطة مريضة تعبث بشعرها المسمم، حتى وإن كانت حشرة ضلت طريقها وسكنت عريشاً قديماً قدم الدهر. لماذا يا ترى يفعل الناس هكذا، رغم أنهم يعرفون تماماً أن ما يتمسكون به ليس إلا حبالاً واهية مهترئة، وليس إلا أوهاماً، وخداعاً بصريا.
هكذا فعل كفار قريش عندما أصروا على بقائهم خلف أصنامهم، يرعونها، ويعبدونها، ويقولون هكذا وجدنا آباءنا ونحن على عهدهم ماضون. لأن هناك قوة عظمى فتاكة، تقبض على زمام الأمر في حالة غياب الوعي، وهناك يد قوية تتشبث بالأفكار الخربة، لأنها أفكار تحفظ ماء الوجه «للأنا» التي لا يمكن أن تنتعش إلا بوجود هذه الخدع التي تسير عكس التيار، وضد الحقيقة.
النبي عيسى عليه السلام، قال: الحقيقة تنورك، فتبعها، ولكن البعض من الناس، لا يعيشون إلا في الظلام، ولا تنطلق أجنحتهم إلا تحت جنح الليل البهيم، لأنهم على يقين بأنهم يستطيعون ممارسة الكذب على الآخر، دون أن يراهم أحد، ودون أن تنكشف أحابيلهم.
لذلك تظل أفكارهم باردة، مثل حثالة القهوة، مثل بقايا قشور القمحة، مثل حلم ليلة حافلة بالصور الخيالية الفجة.
هكذا تنمو الأعشاب الشوكية في طريق كل من يعيش وهم الأفكار البائتة، وكل من يتمرغ في أوحال ذاكرة مثقوبة، وصور صدئة، ومسلسل مشاهد ليلية، كأنه فيلم بالأبيض والأسود على الرغم من أن بعض هذه الأفلام تفوق في روعتها ما يبث هذه الأيام من أعمال أصبحت كالأمطار الحمضية تميت الذائقة ولا تحييها. عندما أستمع إلى حديث بعض الأصدقاء، وهم يسردون قصصاً، أشبه بفوازير رمضانية، أشعر بالألم يجتاح رأسي، لأن ما يصل إلى أعصاب المخ، هو خارج عن الطبيعة، هو مثل ضحالة ماء تتسرب من بئر عبثت به الحيوانات الضالة.
هؤلاء يتقيؤون أفكاراً، مؤذية للمشاعر، ويفرزون صوراً خيالية خارجة عن المعقول، هؤلاء يعيشون في زمن الجمع والالتقاط، هؤلاء يمارسون اللعب في باحة مكتظة بنثات زجاج، فيجرحون، ويجرحون، ولكنهم لا يبالون، لأن «الأنا» في داخلهم يستمتع بمثل هذه الألعاب، ألعاب الجمباز، على حبال ذاكرة الغير. هي متعة لا أكثر وهي لعبة كما ذكر أحد الفلاسفة عن أنها ديناميكية لعب، اخترعها العقل الباطن، واستمتع بها الإنسان، وأدمنها وصارت جزءاً من ثقافة، وكلاً من شخصية.