ما الهوية؟ هذا السؤال الفلسفي الغائر في روح الكائن المتعدّد الأوجه والأماني والصفات. إنها اختصاراً، الشجرة التي تنمو في اتجاهاتٍ متباينة، تغوصُ جذورها عميقاً في الأرض ولكن فروعها تمتدّ في ألف صوب. الهوية ليست قالباً جاهزاً نرتديه عند الولادة، بل رحلة معقدة من الاكتشاف والتفاعل مع النفس ومع المحيط. الفرد في رحلته صعوداً على سلالم الأقدار، لا يبقى كياناً واحداً بسيطاً كما بدأ، بل يتحول إلى مزيج من هويات لا تُحصى.
قد يولد الطفل من أبٍ وأمٍ ينتميان إلى ثقافات وأعراق مختلفة، ينمو داخل هذا الطفل تعدد في هوية التلقي والفهم. فهو يحمل في ذاته إرث الأب، كالمطر الذي يسقط على أرض غريبة فيمنحها الحياة، وإرث الأم، كالشمس التي تضيء الكون بغير تمييز. ومنهما يولد كيان جديد يمزج بين هذه الهويات، ويصنع من هذا الخليط إيقاعاً جديداً يعبِّر عن ذاته دون تقيّد بتقاليد منفردة. هذا الفرد هو ابن العالم، يجمع بين تضاريس الأرض ولغات الطبيعة.
ليس التنوع العرقي وحده ما يشكّل هوية الفرد، بل إنّ الهوية الدينية واللغوية والثقافية والمكانية والزمانية كلها تتداخل وتتمازج لتخلق صورة الإنسان الكاملة. هناك هوية دينية تلهمه في بحثه عن المعنى، هوية لغوية تعطيه الأدوات ليعبر عن ذاته، هوية مكانية تجعله جزءاً من جغرافيا معينة، وهوية زمانية ترتبط بمراحل تطوره في هذا الكون الواسع. وهناك من يمتلك ويتحدث بثلاث هويات لغوية وينتمي إلى مكانين أوثلاثة في الوقت نفسه. هذه ظاهرة عالمية اليوم، عالم الهويات المتداخلة.
في هذا التركيب المعقد، يبحث الإنسان عن التوازن. يحاول أن يمسك بكل هذه الهويات، يحاول أن يجد التوازن بين إرثه الثقافي وبين تطلعاته الفردية، بين انتمائه لجماعة وبين رغبته في الاستقلال. ومن هذا الصراع، تتولد هوية جديدة قائمة على السؤال الفلسفي القديم: من أنا؟
الهوية هي السؤال الوجودي الأول. إنها طريقٌ طويلٌ يمشي فيه الإنسان وحيداً أحياناً، ولكن محاطاً بالأصوات التي سكنت روحه منذ اللحظة الأولى التي أبصر فيها النور. وكما تذرو الرياح التراب ثم تجمعه من جديد، تتشكل هوية الإنسان مع كل خطوة يخطوها في هذه الحياة، حتى تصل إلى نقطة تتوحد فيها كل تلك الهويات المتفرقة لتشكل «الأنا» الجديدة.