بعض الأصدقاء لا يكتفون بتقديم النصيحة على طبق من ذهب، ولكنهم يرسلونها بقدر كرمهم على جناح طائرة، وبقدر جودهم على شرفة سفينة مثل «همس ريح البحر»، هكذا عادة الكبار، أمثال «أبو مبارك» الذي يظل يطمئن على أي المراسي رسوت، وأي المدائن كانت وجهتك بالأمس، فلا تعرف كيف تشكره أكثر أو كيف تحبه أكثر أو كيف تنتصر لفريقه غالباً أو مغلوباً، جميل صيفنا كان، وأكثر ما زاد جماله سفينتنا «همس ريح البحار» التي هي لوحدها عالم متنقل، فيها كل متع الدنيا، ولو بقيت ساكناً فيها أسبوعاً فلن تشتكي بأساً ولا رهقاً، فنهارها كسل لذيذ، وليلها ضجيج، بحيث لا تعرف أصدقاء الليل من أصدقاء النهار.
توقفنا في مدن كثيرة خلال تجوال تلك السفينة، لكن من المدن التي لابد وأن تذكرها «مرسيليا أو مارسي Marseille» كما يلفظها الفرنسيون، وهي مدينة تاريخية أقرب لعشاقها البحارة المارين أو العابرين، واليوم ما زالت كما هي مكاناً ومأوى للهاربين والمهاجرين وقراصنة البحار، بينها وبين العدوة الأخرى من البحر الأبيض مثل المدن الجزائرية سويعات من عبور الماء، هي المدينة الثانية كبراً بعد العاصمة باريس، وهي مدينة ثقافة وتنوع عرقي وديني، للوهلة الأولى إنْ دخلت مركزها ستعتقد أنك في مدينة مغاربية، وهذا طابعها، وحياتها الجديدة.
ومن المدن الأخرى الجديرة بالتوقف فيها مدينة «بيزا» الإيطالية التي ذكرها الجغرافي الإدريسي العربي باسم «بيش أو بيشة» في إقليم «تسكانه»، لعل ما أشهرها ذاك البرج المائل الذي بني في القرن الثاني عشر الميلادي بطول 55 متراً، والذي شرع في الميلان بعد بنائه مباشرة، واليوم يعد أيقونة تاريخية معمارية وسياحية لإيطاليا، وقد سألت الكثير من سكان سفينة «همس رياح البحار» لماذا يودون زيارة هذه المدينة، فكان جواب الكل ذاك البرج المائل.
أكثر ما يحزن في الرحلات البحرية هو اليوم الأخير، ووداع الناس والأشياء والأمكنة، وتلك الصداقات التي بنيتها في وقت قصير، وتشعرك الآن أنهم من بقايا أهلك، ووداع تلك السفينة الكبيرة التي تشبه جدتك بما كانت تخبئه لك من أشياء جديدة وممتعة كل يوم.. وداعاً يا همس ريح البحار.