لا أعرف كيف يحدث ذلك ولكنه يحدث فعلاً عندما تشعر بكل كيانك بأنك تنتمي لهذه التجربة التي تقرؤها على ورق جامد، فتبدو تضاريس المكان المحكي على الصفحات كأنها تحت قدمك تماماً، تشعر بالتربة التي تمر عليها، ويلفح هواؤها وجهك، وتتلمس بأصابعك تعاريجها، وتتساقط حواسك الأخرى مستسلمة أمام الجغرافيا التي لم تطأها من قبل. بالنسبة لي يبدو هذا الأمر عجيباً ولا أملك تجاهه إلا كل تقدير لأولئك الذين ينسجون من مخيلتهم عوالم حقيقية بتأثيرها على نفوس قرائهم.
عشنا مؤخراً في مجموعة القراءة في «مؤسسة بحر الثقافة» رواية «فستق عبيد» للكاتبة الأردنية سميحة خريس، هذه الجغرافيا المؤثرة بأماكنها التي أثرت التجربة الإنسانية بتعقيداتها، في مزرعة الفول السوداني في دارفور، وإلى بيت التاجر في الجزائر، وإلى لشبونة ومزرعة الكونت في مدينة فاتيما، وأخيراً إلى جزيرة سانتو انتاو، غصنا مع بطلة الرواية في هذه الأماكن التي أخذت من روحها وأعطتنا. تمكنت الكاتبة من خلق أماكن تتجاوز الوصف البصري لتصل إلى أعماق التجربة الإنسانية، أماكن تعكس المشاعر، وتثير الحنين، أماكن تغمرنا بالدهشة، وأخرى تثير فينا السخط!
عندما نتفاعل مع رواية أبدع كاتبها إلى هذا الحد، لا تقتصر تجربتنا القرائية فيها فقط على تتبع الأحداث أو التفاعل مع الشخصيات، بل نجد أنفسنا مدفوعين لاستكشاف عوالمهم الجغرافية التي يعيشون فيها، فتتحول الخلفيات المكانية للأحداث في العمل الروائي إلى شخوص قائمة بذاتها، تحمل ملامح وروحاً تشكل فضاء يعيش فيه القارئ حياة أخرى خارج حدود واقعه.
تتحول الأماكن إلى مرآة عاكسة للمشاعر عندما يبرع الروائي في تجاوز تفاصيل المكان الجامدة، ويحوله بقلمه إلى كائن حي نابض بالمشاعر والأحاسيس، فتصبح الغرفة حضناً دافئاً يلجأ له صاحبها، ويتحول الشاطئ إلى صديق تشاكسه بحب، والغابة إلى قبيلة تشد من أزرك.. تتحول الأماكن إلى كائنات حية نعيش معها حياة أخرى. هي حياة أخرى لآخرين بعيدين عنا، ولكننا بهذا الانغماس أصبحنا ننتمي إليها بعد أن أصبحت جزءاً من ذاكرتنا العاطفية.